أما أيام التشريق الثلاثة التي بعد العيد -وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة- فهذه -أيضاً- لا يجوز صومها، وهي أيام أكل وشرب، وتسمى أيام منى، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) ، والأكل والشرب ينافي أن يكون هناك صيام؛ لأنه يقلل من التمتع بنعم الله تعالى وبرزقه، فناسب أن الحجاج وكذلك غيرهم من المقيمين يفطرون في أيام التشريق، ولأنهم في تلك الأيام غالباً يذبحون، ولا يزال عندهم بقية من لحوم الأضاحي، فناسب أنهم يأكلون منها ولا يصومون.
أما يوم عرفة فقد تقدم أنه اليوم الذي فضله كبير، وأن صيامه عظيم وأجره كبير، إلا للحجاج، فالحجاج يفطرون يوم عرفة، وورد النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة، وورد الأمر بصوم عرفة لغير الحجاج، فيعتبر يوم عرفة للحجاج من أيام الأعياد، وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) .
أما عيد الفطر -وهو اليوم الأول من شهر شوال- فإنه يحرم أيضاً صومه؛ لكثرة الأحاديث التي تنهى عن صيامه، والحكمة فيه أنه يوم فرح.
وبأي شيء هذا الفرح؟ إن الفرح المذكور بإكمال الصيام، فالله تعالى إذا وفق العباد فأكملوا صيام شهرهم وقضوه وأتموه، وأتموا هذا الشهر بكماله قياماً وصياماً وقراءة وعبادة، وانتهى هذا الشهر ناسب أن يظهروا الفرح بهذه الأعمال، فجعل لهم يوم عيد بعد هذا الشهر مباشرة، فاليوم الذي يلي رمضان جعل يوم عيد يظهرون فيه سرورهم وابتهاجهم، ولا يجوز لهم -والحال هذه- أن يصوموا.
وأيضاً فأمرهم بالفطر ليحصل الفصل بين رمضان وغيره، ليحصل أنهم أفطروا اليوم الذي يلي رمضان، فيتميز رمضان عن غيره كما أمروا أن يميزوا أوله.
وبذلك عرف أن صيام هذين اليومين -يوم الفطر ويوم النحر- ممنوع ومحرم لهذه الحكم.
وفي هذا الحديث النهي عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، والنهي عن صلاتين: صلاة بعد العصر وصلاة بعد الفجر، أي: في أوقات النهي، وقد تقدم الكلام عليها في الصلاة.
وكذلك النهي عن لبستين: عن اشتمال الصماء وعن الاحتباء، وهو أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وهذه تتعلق باللباس.
واشتمال الصماء: هو لبسه للثوب الذي ليس له منافذ، أن يلف على بدنه رداءً -مثلاً- أو كساءً ولا يجعل ليديه مخرجاً يخرجهما منه، فيكون كأنه أصم، فكأن هذا الثوب أصم، والصمم هو انسداد الأذنين، فكذلك اشتمال الصماء هو الالتفاف بالثوب الذي ليس له منافذ، ولعل الحكمة فيه أنه ربما يحتاج إلى إخراج يده، فإذا أخرج يده من تحت الثوب الذي ليس عليه غيره بدت عورته أو نحو ذلك، أو مس عورته، أو أنه قد يحتاج إلى عمل بيديه ولا يستطيع العمل بهما ما دام قد التف بهذا الثوب، فهذا اشتمال الصماء.
وأما الاحتباء فهو أن يجلس الإنسان على إليتيه وينصب قدميه ويرفع ركبتيه، ويلف على ظهره وعلى ساقيه ثوباً ليس بين عورته وبين الأرض شيئاً، فيحتبي في هذا الثوب وهو جالس.
والحكمة في النهي أنه ربما يقوم فتبدو عورته، وربما يميل يمنة أو يسرة فتبدو عورته، والإنسان مأمور بأن يحفظ عورته ويسترها عن الناس؛ لأنها كاسمها عورة وسوءة، وقد جعل الله عقوبة آدم وحواء لما أكلا من الشجرة أن بدت لهما سوءاتهما، أي: عوراتهما.
فالإنسان يحافظ على ستر ما يعيبه أو ينشر له سمعة سيئة.