أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن الأفعال الجاهلية التي يفعلونها عند المصيبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) .
هذا من أحاديث الوعيد التي يشدد فيها صلى الله عليه وسلم على بعض المعاصي؛ حتى يكون أبلغ في الزجر، وذلك لأن هذه الأفعال كانت منتشرة في الجاهلية، والجاهلية: ما قبل الإسلام، سميت بذلك لكثرة جهلهم، وعبادتهم صادرة عن جهالة، فمنها أنهم كانوا إذا مات الميت فمن حزنهم عليه ومن شدة وجدهم يضرب أحدهم خده، أو يضرب صدره على وجه الحزن، وعلى وجه التوجع، وضرب الخدود تسخط من قضاء الله، فالذي يفعل ذلك كأنه سخط قضاء الله وقدره، ولم يرض بما قدره ولا بما أصابه، وذلك ينافي الصبر، والله تعالى أمر بالصبر عند المصيبة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155-156] ، فكونه -مثلاً- يضرب خده بيديه أو صدره أو فخذه أو جنبه، يظهر بذلك التسخط ينافي الرضا، وينافي الإيمان بالقدر والقضاء، وينافي الصبر.
كذلك قوله: (من شق الجيوب) ، والجيب هو مدخل الرأس، والفتحة التي يدخل منها الرأس معروفة، كما في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ، فالعادة أنه إذا سمع بالمصيبة أو سمعت المرأة بالمصيبة أنه مات فلان، أو مات أخوه أو أخوها، فأقرب شيء جيبه يمسكه ويشقه، حتى يشق الثوب كله، وربما بقي عرياناً إذا لم يكن عليه سراويل أو إزار، وقد يشق غير الجيب، فيشق الأكمام -مثلاً- أو يشق الثوب من أسفله أو من أحد جانبيه، وكل ذلك تسخط لقضاء الله، وكذلك لو شق -مثلاً- عباءته أو شق عمامته أو نحو ذلك، فكل ذلك من التسخط، ولا شك أن هذا ينافي الصبر، وكذلك دعوى الجاهلية كالتشكي باللسان، وذلك لأنه ينافي الصبر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه دمعت عيناه، فكأن الصحابة استنكروا منه، فقال: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه-) يعني أن العذاب على التسخط باللسان، وعلى الصياح والنياحة ونحو ذلك، فالصياح والكلام الرفيع يسمى نياحة، والنائح: هو الذي يدعو بدعوى الجاهلية، فهو الذي ينوح ويندب ويصيح بأعلى صوته لحر المصيبة -في زعمه- في قلبه.
ودعوى الجاهلية سميت بذلك لأنهم هم الذين يفعلونها، وسميت (دعوى) ، وتسمى -أيضاً- (ندباً) ، وتسمى (نياحة) ، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) ، والسربال: هو الثوب الذي يلبسه المقاتل، وكذلك الدرع من حديد يلبس في القتال.
يقول: إنه يلتصق بجلدها هذا السربال الذي يستر البدن كله، والدرع الذي يستر البدن إلى نصفه إلى الحقوين أو نحو ذلك، والقطران معروف، وهو الذي تطلى به الإبل، وهو مادة سوداء شديدة الحرارة، إذا التصقت بالجلد تمزق الجلد، يطلى بها البعير إذا أصابه الجرب فينسلخ شعره في حينه، وهو معروف باسمه القطران، والجرب معروف، وهو الذي يتشقق به الجلد، حكة تكون في الدواب يتشقق منها الجلد.
وعلى كل حال فهذا من العذاب الذي يعذب به النائح، والنياحة -كما فسرت- هي: ندب الميت إما باسمه، كأن يقول: وا محمداه! وا إبراهيماه! وا سعداه! ونحو ذلك يناديه باسمه، وإما بقرابته منه، كأن يقول: وا أبواه! وا أخياه! وا ولداه! وا صديقاه! وما أشبه ذلك، وإما بصفة يصفه بها، كأن يقول: وا مطعماه! وا كاسياه! وا كافلاه! وا ناصراه! يصفه بأنه كذلك، وورد في بعض الأحاديث أن الميت يتألم من هذا الندب، فكلما قالوا له: وا مطعماه! يضرب أو يوبخ فيقال: هل أنت المطعم؟ هل أنت الكاسي؟ هل أنت الكافل؟ هل أنت الناصر؟ فيؤلمه ذلك ويؤلمه كلام أهله.
فهذا ونحوه دليل على الزجر عن أفعال الجاهلية من النياحة ومن الصياح ونحو ذلك.