قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه في باب صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه البخاري.
باب في موقف الإمام من الميت.
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام في وسطها) .
باب في تحريم التسخط بالفعل والقول.
عن أبي موسى عبد الله بن قيس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) قال المصنف: الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة] .
هذه الأحاديث تتعلق بأحكام الجنائز، فمن أحكامها اتباع النساء الجنائز، حيث ورد النهي عن زيارتهن المقابر ولعنهن على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) ، وفي رواية: (لعن الله زوارات القبور) ، ولا شك أن اللعن دليل على التحريم، فهذا يدل على أنه لا تشرع لهن زيارة القبور، كذلك النهي عن اتباع المرأة للجنائز، ومعلوم أن اتباع الجنائز فيه فضل وأجر ثبت فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان.
قيل: يا رسول الله! وما القيراط؟ قال: مثل الجبل العظيم -أو القيراطان مثل الجبلين العظيمين-) يعني: من الأجر.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من حقوق المسلمين بعضهم على بعض اتباع الجنائز في قوله: (للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويحب له ما يحب لنفسه) ، ومعنى (يتبع جنازته) أنه إذا مات شيعه وتبعه إلى أن يدفن، فإن ذلك من حقه، ودليل على بقاء المودة له، ومن مواساة ذويه وأهله.
ولكن بالنسبة للنساء لا يحق لهن ذلك، وما هو السبب؟ هو ضعف نفوسهن، وقلة تحملهن، وكثرة الجزع والفزع فيهن أكثر من الرجال، وكذلك الفتنة بهن، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى نسوة تبعن ميتاً فقال لهن: (هل تُدلين فيمن يُدلي؟ قلن: لا.
قال: هل تَدْفِنَّ فيمن يَدْفِن؟ قلن: لا.
فقال: ارجعن مأزورات غير مأجورات؛ فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت) علل بهذا، فأمرهن بالرجوع ولم يمكنهن من الذهاب، أي: تؤذين الأموات بالصراخ وبالنياحة وغير ذلك، وتفتن الأحياء، فالنظر إلى المرأة حتى ولو كانت متحجبة قد يكون فتنة، فلأجل ذلك أمرهن بالرجوع ونهاهن عن الاتباع، وأخبر بأنهن ليس لهن حظ في التشييع، وأن الجنائز يشيعها الرجال، وهم الذين يتولون مواراتها.
وثبت -أيضاً- في سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة جاءت من قبل البقيع، فقال: من أين أتيتِ؟ فقالت: من أهل ذلك الميت عزيتهم في ميتهم.
قال: لعلك بلغت معهم الكدأ - والكدأ هو المكان الصلب الذي يعد للمقابر- فقالت: معاذ الله وقد سمعتك تنهى عن ذلك! فقال: لو بلغت معهم الكدأ ما دخلتِ الجنة -أو ما رأيتِ الجنة- حتى يراها جد أبيك) يعني الذي مات كافراً، فهذا فيه وعيد شديد، مع أنها فاطمة الزهراء، وهي ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل الذي هو زيارة للقبر فيه هذا الوعيد الشديد لا شك أنه دليل على التحريم، وهو من أحاديث الوعيد التي يرد فيها الزجر عن بعض الأعمال، فيستدل به العلماء على أنه حرام.
فعلى هذا نقول: زيارة النساء للقبور حرام ما دام الوعيد قائماً عليها؛ لأنهن يرجعن مأزورات غير مأجورات، فإذا كانت فاطمة الزهراء لن ترى الجنة حتى يحصل كذا وكذا فلا شك أن هذا دليل على أنه محرم، ولا يغتر بمن كتب يؤيد أو يدعو النساء إلى الزيارة ويفتح لهن الأبواب ويرخي لهن الحجاب، ولا شك أن الذين كتبوا في ذلك واشتهروا بهذا الكتاب قوم رأوا المرأة في تلك البلاد شاركت الرجال، وأصبحت كأنها مع الرجال إلى جنب الرجل، فقالوا: نعطيها -أيضاً- حريتها وحقها في أن تزور القبور كما يزورها الرجل، وأن تشيع الجنائز، وأن تفعل كما يفعل الرجال.
واستدلوا بأدلة ليس فيها معنى، قالوا: إن عائشة زارت قبر أخيها.
وصحيح أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، ولكن لم يكن في مقبرة، إنما كان مدفوناً في مكان، مرت عليه في الطريق وعدلت قريباً، حتى إنها اعتذرت عن ذلك وقالت: (لو شهدتك -أي: عند موتك- ما زرتك) أرادت أن تأتي إلى قبره وتسلم عليه وتدعو لأخيها عبد الرحمن حين مات في الطريق بين مكة والمدينة، فلا دلالة في هذا على زيارة القبور.
واستدلوا -أيضاً- بأن عائشة قالت: (يا رسول الله! ما أقول إذا زرت القبور؟ فقال: قولي: السلام عليكم) ، ونقول: هذا فيما إذا كانت عابرة طريق فمرت، فإذا مرت المرأة وهي تسير -مثلاً- في سيارة أو راكبة أو ماشية والقبور إلى جنبها قريباً منها وهي عابرة التفتت وقالت: السلام عليكم.
أما كونها تدخل داخل الأسوار وتقف عند القبور.
وتقول: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان -كما هو مشاهد- فهذا ما فعله الصحابيات، ولا فعله المؤمنون.
وعلى كل حال المسلم يتمسك بذلك، فليس في ذلك تنقص للمرأة، فالمرأة ما دام أنها عارفة بالأحكام فلا يضرها كونها ممنوعة من الخروج أو ممنوعة من زيارة القبور أو نحو ذلك، ولا ينقصها ذلك، بل يزيد ذلك في كرامتها وفي حشمتها وفي رفعة منزلتها متى عملت بالشريعة كما ينبغي.
وأما قول أم عطية في هذا الحديث: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فالنهي لابد أن يكون بقول: أنهاكم أنهاكن أو بقول: لا تزوروا المقابر لا تأتوا المقابر لا تتبعوا الجنائز، وإذا كان ذلك فالأصل في النهي للتحريم، ولكن فهمت من ذلك أنه لم يكرر، فإنه لما لم يكرر النهي ظنت أنه للكراهة لا للتحريم، فلذلك قالت: لم يعزم علينا.
ولكن الأصل أنه للتحريم، فهذا فيما يتعلق باتباع النساء للجنائز.