أما الحديث الثاني ففيه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، فعلمه هذا الدعاء وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) .
هكذا علم الصديق أن يدعو بهذا الدعاء ونحن أحق بأن ندعو به.
أمر الصديق بأن يعترف بهذا الاعتراف: (ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) وفي رواية: (ظلماً كبيراً) هذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه هل يقال: إنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، وهو من أول السابقين إلى الخيرات والمسارعين إلى الأعمال الصالحة، وهو من أهل الإيمان الصادق الثابت الذي لا يتزعزع، وهو من المصدقين لله وللرسول دون تردد، ومع ذلك يقول له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) ، إذا كان هذا يقال لـ أبي بكر الصديق، فنحن أولى بأن نكون قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وظلم الناس قد يكون بشيء من حقوق النفس، وقد يكون بمطاوعة النفس في شيء من المعاصي والمخالفات، وكل ذلك من ظلم النفس.
وقد ذكر الله تعالى الاعتراف بالظلم من عباده أو من بعضهم، كما حكى الله تعالى عن يونس في قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فيونس عليه السلام اعترف أنه من الظالمين، ومع ذلك فإن ظلم النفس عن تقصير في شيء من حقوقها يعفى عنه إذا حافظ العبد على أوامر الله سبحانه وتعالى، ويغفر الله له ذلك، لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: أينا لم يظلم نفسه؟! أي: إذا كان الأمن والاهتداء لا يكون إلا لمن لم يلبس إيمانه بأي ظلم، فأينا يحصل على ذلك؟! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظلم هاهنا هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح -يعني: لقمان- {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] .
وعلى كل حال فالظلم الذي وصف به أبو بكر نفسه هو تقصيره في حقوق الله، يعني: فيما يجب لله؛ وذلك لأن العبد مقصر دائماً في حقوق ربه، ولا بد أن يكون قد وقع منه شيء من الغفلة، وشيء من الخطايا والخطرات ونحو ذلك، وكل ذلك من ظلم النفس، وكذلك قد تكلم فيما لا يعنيه، أو نظر إلى ما لا يشتهيه، أو أكل شيئاً بغير حقه أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من الظلم، فعلى الإنسان أن يعترف بهذا الظلم وأن يطلب من ربه أن يغفره.
ثم هذا الذكر يأتي به في آخر الصلاة: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ليعترف بأنه ولو أدى هذه الصلاة ولو ذكر الله فيها، ولو قرأ كتابه، ولو قرأ ما قرأه، ولو خشع وخضع وركع وسجد، فإنه مع ذلك مقصر فيما يجب عليه لله سبحانه وتعالى، فسبيله أن يطلب العفو، وأن يطلب المغفرة، فهكذا يختم الإنسان صلاته بالاعتراف بالتقصير؛ رجاء أن يتداركه ربه برحمته.
هذا الدعاء في هذين الحديثين من السنن، يعني: قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي) إلى آخره، أو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، هذا من سنن الصلاة، يعني: يتأكد أن يأتي به، وبعض العلماء يرى وجوبهما، حتى روي أن طاوساً أمر ابنه أن يعيد الصلاة لما لم يقل: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) إلى آخره؛ لأنه ورد في حديث (إذا صلى أحدكم فليستعذ بالله من أربع) .
ولعل القول بأنه مستحب لا واجب هو الراجح، والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام قد خير العبد في الدعاء لما ذكر التشهد قال: (ثم ليتخير بعد من الدعاء ما شاء) وفي رواية: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ، فلما أمره بأن يتخير من الدعاء ما يناسبه، دل ذلك على أن هذا الدعاء ليس بواجب، وإنما هو مندوب ومستحب.
ومع ذلك يحرص على أن يأتي به مهما استطاع، وبعض الأئمة قد يخففون التشهد الأخير، فلا يتمكن المصلون خلفهم إلا من بعض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والواجب أن ترشدوا الأئمة الذين يخففون وتأمروهم بأن يتأنوا بعد أن يقولوا: (اللهم صل على محمد) ، حتى يقول المأمومون خلفهم: (اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، وقوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) إلى آخره، وليس في ذلك إطالة على المأمومين ولا مشقة عليهم.