أما الأمر الثاني وهو تراص الصفوف: فدليله ما ورد في الأحاديث من أنهم إذا تفرقوا يدخل بينهم مثل أولاد الغنم من الشياطين، أي: تدخل بين الاثنين، فيؤمرون أن يتراصوا ولا يتركوا بينهم هذه الفرج، فيتقاربون بالأقدام، ويتحاذون بالمناكب وبالأكعب وإن لم تحصل مماسة.
وقوله في حديث النعمان: (حتى كان الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه) يقول العلماء: هذا على وجه المبالغة، لا أنه على وجه الحقيقة؛ وذلك لأن في الإلصاق شيء من المضايقة.
وأيضاً نلاحظ أن بعضهم يُفرج بين قدميه إذا قام فيترك بين قدميه نحو ذراع أو أكثر، فيكون بذلك متسبباً في وجود فرجة بينه وبين الآخر، فيكون هناك تفريج كبير بين الأقدام، وقصده من ذلك العمل بظاهر الحديث، وهو إلصاق الكعب بالكعب، فنقول: لا يلزم الالتماس، ولكن التقارب هو المطلوب فقط، فإذا حصل التقارب لم يحصل هذا التفرق، ولا الفرج ولا الاختلال.
وقد بيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه التسوية من تمام الصلاة، وخاف على أمته إذا لم يفعلوا ذلك الاختلاف في القلوب فقال: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، أو بين وجوهكم) وكأنه جعل ذلك من باب العقوبة، يعني: إذا تركوا هذا الذي أرشدهم إليه فعقوبتهم أن تقع هذه المخالفة، ولا شك أن آثار المخالفة بين الوجوه والمخالفة بين القلوب سيئة؛ لأنهم إذا اختلفوا اختلفت قلوبهم فحصل تقاطع، وحصل تهاجر، وحصل تخالف في الآراء، وحصل اختلاف في المودة والمحبة، فلا يكونون إخواناً كما أمرهم الله تعالى، بل كل منهم ينفر من الآخر، وكل منهم يكون ضداً للآخر، هذا قد يكون عقوبة لهم إذ تركوا ما أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم.