استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة دل عليه القرآن، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] يعني: إذا أردت الصلاة، {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] .
أمر الله باستقبال البيت الحرام في سورة البقرة في ثلاث آيات، وكرر ذلك بالتأكيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما فُرضت عليه الصلاة وهو بمكة يستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس، فكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس؛ وذلك لأن بيت المقدس قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، والكعبة هي قبلة أبينا إبراهيم، ولما هاجر أُذن له أن يستقبل بيت المقدس؛ تأليفاً وبياناً أنه على ملة الأنبياء قبله، ولكن بعد أن مضى عليه ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ولم يُفد ذلك في تأليف بني إسرائيل ولم يزدهم إلا عصياناً وتمرداً، أعاده الله ورجّعه إلى قبلة أبيه إبراهيم، فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142] ، واستقبل الكعبة وترك القبلة الأولى فاستنكر ذلك السفهاء والمنافقون واليهود ونحوهم؛ لذا أمر الله نبيه أن يخبرهم بأن له المشرق والمغرب: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] فأمره بأن يستقبل الكعبة التي هي بيت الله، ولا شك أن استقبالها فيه تعظيم لها، ولتلك المناسك، وبيان لأهميتها، وحثٌ للناس على أن يأتوا إليها ويتعبدوا بالعبادات التي لا تصح إلا بها من الحج والعمرة والطواف والاعتكاف ونحو ذلك.
والمسلمون يستقبلون الكعبة في أي مكان وفي أي قطر من أقطار الأرض، يتوجهون في صلواتهم كل يوم خمس مرات في الفرائض وما شاء الله من نوافل، ويستقبلون هذه الكعبة، ولا شك أن هذا الاستقبال يحفز هممهم ويشوقهم ويبعث اشتياقهم إلى تلك الرحاب، حيث إنهم إذا كانت هي قبلتهم انبعثت الهمم إلى أن ينظروا إليها، وأن يأتوا إليها رجالاً وركباناً ليقرءوا، وليتعبدوا، وليقيموا العبادات التي يتعبد بها هناك.
والحاصل: أن استقبال الكعبة ركن واجب وشرط من شروط الصلاة، فالفرائض لابد فيها من استقبال الكعبة، فمن كان قريباً فلابد حينئذٍ أن يصيب عينها، وإن كان بعيداً اكتفى بأن يستقبل جهتها، وأما النافلة فإن أمرها أخف، فله والحال هذه أن يصلي وهو راكب، ويتنفل ولو كان وجهه لغير القبلة؛ حرصاً من الشارع على أن يكثر الناس من النوافل، وألا يعوقهم عنها عائق؛ وذلك لأن الإنسان قد يكثر سفره، وقد تطول مدة سفره، فينقطع عن النوافل مدة؛ وذلك لعدم تمكنه منها لكثرة مسيره، وكثرة تطوافه فهو دائماً راكب أو ماش على الراحلة أو نحو ذلك، فلو منع من التنفل إلا مستقبلاً القبلة لانقطع عن كثير من النوافل، فلا جرم أبيح له أن يصلي على الراحلة ولو لم يأت بالأركان كلها.
ولو لم يأت بالشروط كلها، وقد جعل العلماء استقبال القبلة من شروط الصلاة التي لا تصح إلا بها، فإن كانت فريضة فلابد أن يستقبلها بكل جسده، إما أن يستقبل عينها إذا تمكن، وإما أن يستقبل جهتها؛ لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) يخاطب أهل المدينة، وكانت قبلته في جهة الجنوب، فقوله: (ما بين الشرق والمغرب قبلة) أي: هذا الجانب الجنوبي، ولو ملتم يميناً أو يساراً وأنتم قد استقبلتم جهة الكعبة، فأنتم على خير، ونقول: في هذه البلاد (الرياض) ما بين الشمال والجنوب قبلة، ولو قُدّر أنه مال يميناً أو يساراً، وإن كان الأفضل أن يستقبل الشطر للآية: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] .