قال المصنف رحمه الله: [باب الغسل من الجنابة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المسلم -وفي رواية: المؤمن- لا ينجس) ] .
هذا الحديث يتعلق بباب الغسل فذكر فيه أبو هريرة أنه كان جنباً ودخل السوق وعليه جنابة، فصادف أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحيا وكره أن يجلس معه عليه الصلاة والسلام وهو جنب، فذهب مختفياً ورجع إلى بيته فاغتسل، وبعدما اغتسل جاء، فاستنكر النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك الذهاب بدون استئذان، ولما رجع سأله، فأخبره بعذره، فاستغرب ذلك وسبّح الله تعجباً، وأخبر بأن المؤمن طاهر البدن ولا ينجس، وإنما النجس هم الكفار، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] .
فقوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة) يعني: في بعض أزقتها وأسواقها، قوله: (لقيه) بمعنى: نظر إليه وتقابل هو وإياه، وقوله: (وهو جنب) أي: عليه جنابة، أما من جماع، وإما من احتلام، ولا تصح عبادته إلا بعد الغسل، وذلك أن الله تعالى أوجب الطهارة الصغرى للحدث نفسه، وهي الوضوء كما تقدم، وأوجب الطهارة الكبرى التي هي الغسل إذا كان هناك جنابة، فقال تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] يعني: لا تفعلوا الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وسمي الجنب جنباً؛ لأنه يتجنب أشياء لا يتجنبها غيره، فالجنب يتجنب الصلاة، ويتجنب المساجد، ويتجنب قراءة القرآن، ويتجنب الطواف بالبيت، ويتجنب مس المصحف ولو لغير قراءة، وأمر بأن يبادر بالاغتسال حتى يزيل ذلك الأثر، أو تلك النجاسة التي هي نجاسة معنوية.
ولكن يجوز أن يؤخر الجنب الاغتسال إلى الوقت الذي يحتاج فيه إلى عبادة، فهذا أبو هريرة أخر الاغتسال وأصبح جنباً إما من احتلام وإما من جماع ودخل السوق وذلك في وقت الضحى لقضاء حاجة أو نحوها دون أن يغتسل، فدل على أنه كان قد عرف أنه يجوز تأخير الغسل من الجنابة.
وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم إذا أصاب أحدهم جنابة ولم يجد ماء ليغتسل به في الوقت القريب، ويخشى أن تفوته المجالس العلمية فإنه يتوضأ ويدخل المسجد لحضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم التعليمية، فيقتصر على الوضوء؛ لأن الوضوء يخفف الجنابة فـ أبو هريرة أخر الاغتسال لأجل حاجة، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ومن تعظيمه له ألا يجالسه وهو على تلك الحال، فرأى أن يذهب إلى البيت حتى يغتسل ويتطهر، فيقول: (انخنست) ، يعني: ذهبت بخفية إلى البيت واغتسلت، والاغتسال معروف.
وأما قوله: (أين كنت) يعني: لماذا ذهبت يا أبا هريرة واختفيت عنا وقد رأيناك؟ فقال: (إني كنت جنباً) كلمة (جنب) تصدق على الرجل والمرأة والجماعة وغيرهم فيقال: هؤلاء الجماعة جنب، وهذا الرجل جنب، وهذه المرأة جنب، يعني: كل منهم عليه جنابة، وقوله: (فاستحييت) وفي رواية: (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) ، كأنه رأى حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وقداسته، ورأى أنه إذا جالسه لا بد أن يسمع منه قرآناً أو لا بد أن يسمع منه حديثاً، أو رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز مجالسته إلا على طهارة كاملة، فذهب واغتسل، ولكن بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يهم وأن المؤمن طاهر وإن كان عليه جنابة.
فقوله: (إن المسلم لا ينجس) وفي رواية: (إن المؤمن لا ينجس) معناه: أن المؤمن موصوف بأنه طاهر طهارة معنوية؛ لأن الإيمان طهر أهله، فالإسلام والإيمان طهر المسلمين من الشرك، أما المشركون فإنهم نجس كما ذكر الله تعالى، وإن كانت النجاسة ليست حسية، ففي هذا دليل على جواز مجالسة الجنب، ومصافحته، وأن الجنابة لا تتعدى، بل يجوز أن تجالسه وأن تصافحه وأن تخاطبه وأن تكلمه وأن تمسه، ولا ينالك شيء من نجاسته فهو طاهر طهره الإيمان، وإنما عليه هذا الحدث، وهذا الحدث لا يسمى نجاسة وإنما يسمى حدثاً يسبب الاغتسال.