قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب اللباس: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ] .
هذا كتاب اللباس، وهذا الكتاب جعله في عمدة الأحكام من أحاديث خير الأنام بعد كتاب الأطعمة؛ وذلك لأن الجميع مما يحتاج إليه، ولأن اللباس من جملة ما أنعم الله به ومنّ به على المسلمين، بل على الأمة جميعاً، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف:26] ، فقسم اللباس إلى قسمين: قسم يستر به الإنسان العورة والسوءة، وقسم يكون رياشاً، يعني: جمالاً وزينة، وكلها مما أنعم الله به وامتن به على العباد، وإن كان ذلك من جملة ما ينسجونه ويعملونه، ولكن هو الذي أخرج لهم الأصل الذي هو مادة هذه الأكسية وهذه الألبسة، فهو الذي امتن عليهم بهذا الشجر الذي يخرج منه هذا القطن ونحوه، وامتن عليهم أيضاً بهذه الأنعام التي ينسجون منها هذه الأصواف وهذه الأكسية ونحوها، وامتن عليهم بالمواد التي يصنعون وينسجون منها هذه الأكسية.
الأصل في اللباس أنه على الإباحة، وأن الإنسان يلبس ما تيسر له، لكن وردت الشريعة بمنع اللباس لبعض الأنسجة ولبعض الأكسية، وأنها لا يجوز لبسها، وعلل ذلك بعلل، ومن جملتها لبس الحرير للرجال، وفي هذا الحديث النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجال الحرير، ويخبر بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.
الحرير معروف أنه لباس يؤخذ من نسيج دود القز، هذا الدود دود صغير يتوالد ويكون مما يتولد منه هذا النسيج الذي ينسجه حتى يجعل له أماكن يكتن بها ويختفي فيها ويخفي فيها نفسه وبيضه وبذره، ومن المعروف أن العنكبوت له أيضاً نسج، وإن كان نسيج العنكبوت ليس مثل دود القز، بل أوهى لقوله تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] ، فكما أن العنكبوت تنسج ولها نسيج، فكذلك دود القز، فيؤخذ من نسيج دود القز هذا النسيج ويعمل منه هذا الحرير، وإذا نسج هذا الحرير فإنه لرقته ولنعومته وملوسته يكون ملبساً منعماً يفتخر به من يلبسه، وينعم به، فلذلك جاءت الأحاديث بالنهي عنه للرجال لما فيه من النعومة، وأبيح للنساء لحاجة النساء إلى الجمال، وإلى الزينة، فهذا هو السر في النهي عنه.
تكاثرت الأحاديث في نهي الرجال عن لبس الحرير، وورد الإذن فيه في بعض الأماكن والأحوال، ففي حديث آخر أن بعض الصحابة اشتكوا حكة في أجسادهم، ولم يناسبهم إلا الحرير، فرخص لهم في لبس الحرير؛ لأجل تلك الحكة، فأخذوا من ذلك أنه يجوز للعذر، كحكة وجرب ونحوه، وورد أيضاً الرخصة في الشيء اليسير منه، ومثلوا بسجف الفراء، الفرو المعروف قد تحتاج حافاته إلى أن تخاط بقطع من الحرير، وكذلك إذا كانت الرقعة التي يرقع بها الثوب يسيرة من الحرير قدر أربع أصابع أو أقل، وكذلك إذا كان الحرير ليس ظاهراً وإنما هو أسلاك خفية وهو ما يسمى بالسداء، إذا لم يكن ظاهراً.
في هذه الأزمنة يوجد بعض الأكسية تسمى حريراً، ولكنها ليست حريراً أصلياً، وإنما هي حرير صناعي كسائر الصناعات التي قلدت بها الأكسية الأصلية، فإذا وجدت هذه الأكسية ولم تكن حريراً أصلاً، وإنما هي صناعة مقلدة لذلك الحرير الأصلي؛ فالأصل فيها الإباحة، لأن النهي إنما ورد في الحرير الذي هو من نسج دود القز ونحوه.
أما بقية الحديث فذكر فيه أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، الله تعالى قد ذكر ثواب أهل الجنة في قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] ، فجعل هذا اللباس الرقيق الناعم هو لباس وكسوة أهل الجنة، ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فمن تعجل هذا اللباس الذي هو الحرير، وأخذه في الدنيا كان من عقوبته أن يحرمه في الآخرة، وفي ذلك وعيد شديد: فقيل: إن المراد أنه يحرم دخول الجنة، وذلك لأن من دخل الجنة فإنه يتنعم بنعيمها، ولا يحرم شيء من لذاتها التي يتمتع بها أهلها، فإذا لم يلبسه دل على أنه ليس من أهل الجنة.
وقيل: إنه وإن دخل الجنة فإنه يكون في موضع لا يلبس أهله -أي: أو أهل ذلك المكان- من لباس أهل الجنة الذي أعد لهم، بل يلبسون غيره مما يتنعمون به أو يتجملون به.