هذه الأحاديث تتعلق بالخمر، ذكر عمر رضي الله عنه أن الخمر ما خامر العقل، أي: غطاه وأغلقه، وأصل التخمير هو التغطية، ومنه قوله في الحديث: (خمروا الإناء وأوكوا السقاء) ، خمروه: غطوه، ومنه تسمية الخمار، وهو غطاء المرأة التي تغطي به رأسها ووجهها، وهو مذكور في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ، فالخمر اسم لما يغطي العقل ويخالطه ويفسده.
حرم الله تعالى الخمر، وكانت -عندما حرمت- تصنع في المدينة من خمسة أشياء كما قال عمر، يصنعها بعضهم من التمر، وبعضهم من العنب، وبعضهم من العسل، وبعضهم من الحنطة، وبعضهم من الشعير، يؤخذ من هذه الخمسة خمر، يعني: يطبخ حتى يتخمر ويشرب، ويكون له حلاوة، وتلك الحلاوة تخامر العقل فتغطيه، فيصل إلى حالة شبه غيبوبة بحيث لا يدري ما يقوله ولا ما يفعله.
حرم الله تعالى الخمر؛ لأنها تسلب العاقل عقله، وما ذاك إلا أن ميزة الإنسان عقله، الله تعالى كلف الإنسان لكونه ذا عقل يفهم ما يقول، ويعقل ما يتكلم به وما يسمعه، ويميز بين الأشياء، فيعرف النافع والضار، ويعرف المصالح والمفاسد، ويميز بين ما له وما عليه، فكان في ذلك ميزة له وفضيلة، ورفعة له وشرف، والناس يتفاوتون في هذه العقول، ولكن يجتمع البشر في أن لكل منهم عقلاً يناسبه، وإذا سلب هذا العقل فإن ذلك الذي سلب عقله تسقط عنه التكاليف، ويلحق بغير المكلفين، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ، المجنون هو مسلوب العقل.
ولما كانت هذه هي منزلة العقل كانت الجناية عليه أعظم الجنايات، فلأجل ذلك لو ضرب إنسان فذهب عقله، فإن فيه الدية كاملة كدية القتل، وهذا دليل على أهمية هذا العقل، ولما كان كذلك حرمت هذه الخمر التي تجني على العقل فتذهبه؛ فحرمت حتى لا يتمادى الإنسان بما يجني به على نفسه، وذلك لأنه إذا سكر فإنه تقع منه المخالفات التي تنافي ما يفعله العقلاء، وللسكارى قديماً وحديثاً حكايات عجيبة في أفعالهم، حتى ذكروا أن بعضهم دخل وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً، فألقاها في التنور حتى احترقت وهو ينظر، وذلك لأنه في تلك الحال ليس معه عقل يميز به، فانظر ماذا حصل منه! وذكروا أن رجلاً استدعته امرأة ليفجر بها، وكان عفيفاً ولكنها أحضرت له كأس خمرٍ، فلما شربها وزال عقله وقع منه الزنا، ووقع منه أكثر من ذلك بسبب أنه فقد العقل الذي كان يميز به بين ما ينفعه وما يضره، فصارت الخمر مفتاحاً لهذه الشرور ولهذه المعاصي، فحرمت لأجل ذلك.