الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: إن الدعوة إلى الله عز وجل تسير في طريقين: طريق العلم أو التأصيل العلمي، وطريق الوعظ، والوعظ يلزم عامة الناس، وأما العلم فيلزم خاصة الناس، وعلى أية حال التأصيل العلمي هو الذي يربي الشخصية العلمية المسلمة الواعية الفاهمة، وأما الوعظ فسرعان ما يزول أثره من القلوب، بل ربما في مجلس الوعظ نفسه يزول الأثر، فكثير من الناس يسمع درس الوعظ أو الخطبة أو غير ذلك ثم على باب المسجد ينفض ثوبه كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، وقد جربنا مراراً أن كثيراً من المستمعين أو الحاضرين يسمع الخطبة أو الدرس أو غير ذلك ثم يخرج فإذا سألته عما سمع كأنه لا يعرف شيئاً، غير أنه تأثر من هذا الدرس حتى إن هذا الدرس أبكاه، لكن لو سألته: كيف بكيت؟ ولمَ بكيت؟ فإنه لا يدري.
وقد سمعنا علماءنا ومشايخنا يقولون: لو أن المرء تعلم في كل يوم من أيام حياته مسألة واحدة من مسائل العلم لكان بعد عدة أعوام عالماً، أو قد تربى على التأصيل العلمي، وهذه بلا شك حقيقة ينبغي التنبه لها.
إننا وإن كنا نتكلم عن الجنة والنار فإننا نتكلم عنهما من باب الوعظ، وإلا كان ينبغي أن نبكي منذ زمن طويل مضى، وإنما نتكلم عن مسائل علمية متعلقة بالجنة والنار، ومسائل اعتقادية متعلقة بالجنة والنار، فلو قلنا الآن: تربة الجنة مما تتكون؟ فهذه مسألة علمية، وليست مسألة وعظية، فهناك فرق بين أن أقول لك: (الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران)، فأنت تلتذ بهذا الكلام وتحصل عندك اللذة، وفرق بين أن تأخذ هذا الكلام وتستقبله على أنه عقيدة، وأن الجنة وما فيها يختلف عن الدنيا وما فيها، فتكون إنساناً واعياً وحافظاً أن بناء الجنة ليس كبناء الدنيا، وأن ملاط الجنة ليس كملاط الدنيا، وأن تربة الجنة ليست كتربة الدنيا، وإنما ترابها الزعفران، فيتكون لديك تصور مبدئي عن بناء الجنة، وعما فيها من نعيم، وأن ما فيها من نعيم وإن وافق في الاسم نعيم الدنيا؛ فالحقيقة مختلفة، فهذه مسألة علمية وليست مسألة وعظية.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أدخلت الجنة) فالمسألة العلمية: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة، ولا يحل لنا أن نسأل كيف دخلها؟ وأين هي حتى يدخلها؟ لأن هذه من مسائل الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد دخل الجنة، وأنه اطلع في النار، ولا يصح أن نقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار، وربما أحد الوعاظ يخطأ في نقل ذلك، ويقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار فرأى من فيها وما فيها، ودخل الجنة ورأى ما فيها ومن فيها وهكذا.
لكن التقرير العلمي والتأصيل أن يقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فرأى ما فيها، ومما رأى كيت وكيت وكيت، ونقل إلينا كيت وكيت وكيت، حتى قال لـ بلال: (يا بلال إني أدخلت الجنة فسمعت خشخشتك، فبم سبقتني إليها؟)، فهذا تأصيل علمي ينبغي أن يكون معلوم لدى طالب العلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -والجنابذ: هي القباب، أي: فإذا فيها قباب عالية من اللؤلؤ- وإذا ترابها المسك)، فهذا في باب ذكر تربة الجنة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تربة الجنة)، وابن صياد هذا قيل إنه الدجال، وقيل غيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى في كتاب الفتن.
قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ ابن صياد لما سأله عن تربة الجنة: (درمكة بيضاء) يعني: الدقيق الأبيض (مسك خالص).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (علي بأعداء الله) يعني: بهم اليهود، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسمي اليهود: أعداء الله، فليسوا أعداء المؤمنين فحسب وإنما هم كذلك أعداء الله.
قال: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة، وإنها درمكة)، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل أن يسأل اليهود، وهل اليهود يعرفون الجنة وما فيها؟ نعم يعرفونها؛ لأنه ما من نبي إلا أرسل بالحث على الجنة، وما يقرب إليها من قول أو عمل، والتحذير من النار، والتنفير عنها، وما يقرب إليها من قول أو عمل، ولا بد أن يدل أمته على الجنة، وعلى النار، على ما في هذه من نعيم، وعلى ما في هذه من شر وعذاب أليم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة)، ولابد أن تعلموا أنت