قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280].
إذا كان المدين معسراً ليس مماطلاً، فهذا له حكم الإعسار في الشرع وهو الإنظار إلى حين ميسرة.
أي: إلى أن يتيسر أمره، والعفو لمن ملكه أفضل.
ولذلك جاء في الصحيح: (أن رجلاً كان يداين الناس، وكان يرسل غلامه ويوصيه: يا بني! أنظر المعسر أو تجاوز).
يعني: لا تأخذ منه شيئاً، برئت ذمته وساحته.
(فجيء بهذا العبد يوم القيامة فوقف بين يدي الله عز وجل، قال: يا عبدي! ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! قلت: أجود بمال الله على عباد الله! قال: أتجود على عبادي وأنا الجواد؟ لقد عفوت عنك).
وهذا الرجل لم يعمل خيراً قط إلا هذا العمل، وهو من أمة سابقة على أمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقول أحد هذا العبد دخل بغير صلاة ولا صيام ولا شيء من هذا، فهذا في شرع من قبلنا؛ ولذلك تجاوز الله عز وجل عنه لهذا العمل.
وكما تعلمون (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
فهي دخلت النار؛ لأجل أنها عذبت نفساً محترمة، وكان بإمكانها أن ترعاها وأن تصونها إما بإطعامها أو بتركها تأكل من هوام الأرض، ولكنها لم تفعل ذلك.
وتعلمون (أن امرأة بغياً -أي: امرأة زانية- دخلت الجنة لأجل نجدتها لكلب كان يلعق الثرى من شدة العطش، وكانت هذه البغي قد مرت بهذه الحالة من العطش، فلما رأت ما نزل بالكلب من عطش خلعت خفها فنزلت البئر وملأته ماءً وقدمته للكلب، فشكر الله تعالى لها صنيعها).
وهذا يفسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالخواتيم).
أي: بقدر ما يختم لك بها.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة).
أما إذا كان مماطلاً فإنما يكفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه مسلم وأحمد في مسنده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مطل الغني ظلم).
قال العلماء: الغني: هو من ملك أداء الدين.
ولا يلزم من ذلك: أن يكون صاحب ملايين، أو صاحب عمارات وعقارات، بل يثبت له حكم الغنى إذا كان يملك مقدار الدين الذي عليه.
وأنتم تعلمون خطورة الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لما جاء برجل بين يديه ليصلي عليه الجنازة قال: أعليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترك ما يوفى به دينه؟ قالوا: لا يا رسول الله.
فقال: دونكم صاحبكم صلوا عليه.
فقام رجل من أصحابه وتحمل حمالته.
فقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام) لما في صلاته على أصحابه وأمته من البركة والخير، لقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: وادع لهم- {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
(ثم لما جن الليل رأى هذا الذي قد تحمل الحمالة فقال: يا فلان؟ أقضيت عن صاحبك؟ قال: لا يا رسول الله! إنما هما ديناران، والأمر عجل).
يعني: القصة كلها وقعت هذا اليوم.
فقال: (يا فلان! اذهب فاقض عن صاحبك، فذهب الرجل فلقيه النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الغداة) أي: في صلاة الصبح من اليوم الثاني: (فقال: يا فلان!) أو قال: (أين فلان! قال: أنا يا رسول الله! قال: هل قضيت عن صاحبك؟ قال: نعم يا رسول الله.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت عليه جلده).
تصور أن القبر يحمى على رجل عليه ديناران، فما بالكم بمن يرتع في أموال الناس يمنة ويسرة، يأخذها لا يبالي بردها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله).
لم يقل: أتلف ماله، وإنما قال: أتلفه الله.