الأول يسأل عن أبيه الذي مات ولم يتصدق، أله أجر إن تصدقت عنه؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه -وهو موقوف من الطريق الثاني- يحكي عن أمه عمرة رضي الله عنها التي ماتت فجأة وبغتة: هل ينفعني أنا أن أتصدق عنها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، وسعد بن عبادة أمه كانت قد ماتت فجأة ويعلم منها سعد أنها محبة للخير محبة للصدقة، جوادة سريعة في الخير أسرع من الريح؛ ولذلك قال: وإني لأظنها لو تكلمت تصدقت، ولكن الموت فاجأها، فهل ينفعني أنا أن أتصدق عنها؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم).
فبانضمام الطريقين أحدهما إلى الآخر يتبين لنا أن الصدقة عن الميت تنفع الميت وتنفع المتصدق أيضاً، كما لو أن رجلاً أراد أن يتخلص من مال حرام، فالمعلوم أن المال الحرام يجب الانتهاء عنه وعدم التعامل فيه، والتخلص منه بأي وجه من وجوه التخلّص المشروعة، فإذا كان المال مال ربا، وأبقاه المرء وأنفقه لكان ذلك حراماً عليه، وهو بكونه مالاً حقيراً حراماً، فماذا يصنع به؟ فكونه أراد أن يتخلص منه وتوجهت نيته إلى إنفاقه خوفاً من الله عز وجل فله على هذه النية أجر، ولذلك يخطئ كثير من الناس الذين يفتون العامة إذا سألوهم عن الأموال الحرام ماذا نصنع فيها؟ يقولون: تصدقوا بها وليس لكم فيها أجر.
و صلى الله عليه وسلم أن لهم فيها أجراً، وأجرهم هو إرادتهم طاعة الله عز وجل في التخلص من هذا المال الحرام، لا في عين المال، وإنما في عين التوسل إلى الله عز وجل بالتخلص من الحرام.
فهنا استفدنا من الطريق الأول: أن المتصدق ينفع المتصدق عنه بعد موته، وفي الطريق الثاني: أن المتصدق منتفع بهذه الصدقة.
ومن هذين الطريقين يتبين لنا أن الصدقة تنفع المتصدق والمتصدق عنه، كلاهما على السواء.
فإن قيل: كيف يتخلص من المال الحرام؟
صلى الله عليه وسلم العلماء يقولون: ينفقه بعيداً عن الطعام والشراب، وبعيداً عن المساجد، ويحددون المنافع العامة التي تتعلق بشخص بعينه وبمنفعته، وعلى ألا يكون ذلك في بيت من بيوت الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فيبنون بها مثلاً مستشفيات يرصفون بها الطرق يبنون بها الحمامات والمرافق العامة وغير ذلك.
قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن بشر العبدي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم).
ويتبع هذا طريق آخر.
وهو قوله: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة وحدثني الحكم بن موسى -وهو ابن أبي زهير البغدادي أبو صالح القنطري - قال: حدثنا شعيب بن إسحاق -وهو شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن الأموي مولاهم، البصري ثم القرشي- وحدثني أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع -وكلاهما بصري- قال: حدثنا روح -وهو ابن القاسم البصري - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا جعفر بن عون كلهم عن هشام بن عروة بهذا الإسناد.
أما طريق أبي أسامة وروح ففي حديثهما: (فهل لي أجر؟)، وفي طريق شعيب وجعفر: (أفلها أجر؟)، وفي كل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم)، يعني: يدلان على أن الصدقة تنفع الذي يدفعها والذي دُفعت لأجله.
قال النووي: (في هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها)، أي: ليست جائزة فقط وإنما أيضاً هي مستحبة، وأن ثوابها يصل وينتفع به، وكذلك المتصدق، وهذا كله أجمع عليه المسلمون، أي: هذه المسألة ليست محل نزاع، بل هي من مسائل الإجماع؛ أن الصدقة ينتفع بها المتصدق والمتصدق عنه.