قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو خيثمة -وهو زهير بن حرب النسائي، نزيل بغداد- ومحمد بن المثنى العنزي -واللفظ له- قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري الإمام الكبير المشهور علم من الأعلام، وله أخ اسمه عبد الله بن عمر العمري، وعبد الله ضعيف، وعبيد الله المصغر إمام من الأئمة، أما عبد الله المكبر فهو ضعيف الرواية.
قال عبيد الله: أخبرني نافع -وهو نافع الصغير - مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر -وهو عبد الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)].
قوله: (ما حق امرئ مسلم) فيه حث وتأكيد على استحباب الوصية وعلى سنيتها، وإن كان أهل العلم اختلفوا فيها: أهي واجبة أو مسنونة أو مندوبة مستحبة؟ فذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوصية مندوبة وليست واجبة، وحملوا -أي الجمهور- قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما حق) أنه ليس هو الحق الاصطلاحي، وإنما هو من معناه: حري وجدير لمن كان عنده شيء يوصي به ألا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.
الأمر الثاني الذي صرف ظاهر النص سواء في القرآن والسنة وهو ما يوحي خلاف الوجوب إلى الندب؛ قوله عليه الصلاة والسلام: (يريد أن يوصي فيه)، فأرجع إرادة الأمر ومشيئته إلى العبد، قال: (يريد أن يوصي فيه)، وهذا بخلاف من كان عنده شيء لا يريد أن يوصي فيه، فحينئذ يترجح لدينا أن مذهب الجمهور هو الحق، وأن الوصية إنما هي مستحبة وليست بواجبة.
قوله: (ما حق امرئ مسلم) هل الوصية من أهل الكتاب أو الحربي المقاتل لا تصح؟ الجواب بإجماع أهل العلم: أنها صحيحة، فلو أوصى كتابي يهودي أو نصراني بوصية يريد أن يوصي فيها صحت الوصية فليس الإسلام هنا شرطاً، وهذا بإجماع أهل العلم؛ لأن الوصية تصح من كل أحد من الكافر والمسلم، من المرأة والرجل، وأهل العلم لا يشترطون فيها إلا العقل والحرية، وهذا محل اتفاق بينهم، فلابد للموصي أن يكون عاقلاً؛ احترازاً عن الجنون، فلا تصح وصية المجنون؛ لأنه غير مكلف، والحرية احترازاً من وصية العبد فهي غير جائزة، وذلك لأن العبد وما يملك ملك لسيده، فالعبد في حقيقة الأمر لا يملك شيئاً، بل هو يعد شيئاً داخلاً في ملك سيده، وعلى هذا فهو لا يملك أن يوصي في شيء؛ لأنه لا يملك شيئاً.
أما شرط البلوغ فهو محل نزاع بين أهل العلم، هل تصح وصية الصبي الذي لم يبلغ أو لا تصح؟ محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: تصح وصيته، ومنهم من قال: لا تصح وصيته.
أما اشتراط الإسلام هنا فالحقيقة أنه غير مراد، وليس بشرط لازم لنفاذ الوصية أو صحتها، وإنما خرج مخرج الغالب أو القياس الأولوي، فإذا كانت وصية الكافر صحيحة نافذة، فمن باب أولى أن تكون وصية المسلم، وإذا جاز للكافر أو الذمي أن يوصي، فأحرى بالمسلم أن يوصي، فليس ذكر مسلم هنا في هذا الحديث شرطاً لصحة الوصية؛ لأنه خرج مخرج الورثة: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، وكذلك قال في قوله: (يبيت ليلتين) وفي رواية: (يبيت ثلاث ليال)، فاختلاف العدد هنا دليل على أنه غير مراد كذلك، وإنما المراد التعديل؛ ولذلك عبد الله بن عمر لم يلتزم ظاهر هذا الحديث مع أنه هو الذي رواه.
قال: فما بت ليلتين من بعد أن سمعت هذا الحديث إلا ووصيتي مكتوبة عندي، فهو لم يلتزم ليلتين ولا ثلاث ليال، وهذا يدل على أن ذكر العدد غير مراد، لكنه مدة مفتوحة من الشرع لمن لم يبادر ويعجل في كتابة الوصية سواء كان يومين أو ثلاثة؛ لأن الناس في شغل، وربما أدى بهم الانهماك في الشغل والأعمال وغير ذلك إلى النسيان، فلا أقل من أن يرجع ويتدبر من خلال يومين أو ثلاثة.
أما استحباب كتابة الوصية من أول ما أن يملك المرء شيئاً يريد أن يوصي فيه، فإذا كان قد ملك وتوجهت إرادته إلى الوصية فينبغي له فوراً وعلى التو والحال أن يقوم فيكتب وصيته.
أما عن الإشهاد بالوصية فمحل نزاع بين أهل العلم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الإشهاد ليس بلازم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر الإشهاد، ولم يشترط شهوداً أو شهادة لهذه الوصية، وذهب جماهير أهل العلم إلى استحباب الإشهاد.
وغالى بعضهم فقال: وصية مكتوبة بغير إشهاد لا نفاذ لها، لكن هذا الكلام فيه تجاوز، والأصل أن المرء لو كتب وصيته وإن لم يشهد عليها، فإن كان معروف الخط فتبين للورثة أن هذا خط مورثهم واعترفوا بذلك، وأقروا بهذه الوصية فحينئذ يجب إثباتها، ولا أقل من أن تقاس بالوجادة التي هي أحد طرق تحمل العلم.
والوجادة هي: