قال: [(فمضيت حين ذكروهما لي.
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه)].
هؤلاء الثلاثة فقط: هلال بن أمية، ومرارة العامري، وكعب بن مالك، وكلهم من الأنصار، نهى النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتحدثوا معهم في شيء.
قال: [(فاجتنبنا الناس)].
وفي هذا وجوب طاعة الأمير في السر والعلن.
قال: [(تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض)].
أي: تنكروا، فكلما وقع وجه كعب على وجه واحد من الناس أظهر له غضبه واشمئزازه، وينصرف بوجهه عنه، وهذا زيادة في الخصومة والقطيعة والهجر، وفي هذا جواز بل وجوب مقاطعة أهل البدع والمعاصي.
وأصل الهجر في الشرع: ثلاثة أيام، ولا يزيد عليها المسلم إذا زالت علة الهجر، وأما إذا كان الهجر بسبب الدين وليس الدنيا فإنه يبقى لو بقيت العلة ولو لخمسين سنة، فالتوبة نزلت على هؤلاء بعد مرور خمسين ليلة، فهب أن التوبة نزلت بعد عام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع عن مقاطعة هؤلاء، وكان سيستمر.
إذاً: إذا بقيت علة الهجر والخصومة أكثر من خمسين ليلة، أو أكثر من ثلاثة أيام استمر الهجر والمقاطعة حتى تزول العلة، والأصل: أن الهجر لا يزيد عن ثلاثة أيام؛ لأن هذه الثلاثة الأيام كفيلة بتطييب الخاطر، وهدوء البال، وراحة النفس، وغير ذلك، فالله عز وجل هو الذي خلق النفس، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن النفس تهدأ بعد ثلاثة أيام، فيبدأ الإنسان يفكر فيها بهدوء ولطف؛ لأن الإنسان لو اضطر إلى خصومة فإنه لا يفكر بهدوء، وقد (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقضي القاضي وهو غضبان)؛ لأن مظنة الانحراف عن الحق والعدل قائمة، وكذلك: (نهى القاضي أن يقضي وهو جوعان)، فالأحكام التي تصدر عن القاضي وهو جائع قد يكون فيها انحراف عن الحق.
قال: [(فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا -أي: خضعا- وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم -أي: أنه كان شاباً، وكان صاحباه شيخين كبيرين- فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد -يعني: لو جلس في بيته لكان ذلك أفضل له- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟)].
أي: أنه يريد أن ينتزع الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام انتزاعاً، فهو يذهب ويصلي معه، وبعد الصلاة يقوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: السلام عليكم يا رسول الله! فلا يسمع شيئاً، فانظر إلى مدى الحيرة التي يقع فيها صاحب المعصية، فهو يتمنى أن يكلمه كلمة واحدة طيبة.
قال: [(فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر)].
يعني: أنا حريص على أن أكون قريباً منه في الصلاة، ثم يختلس بنظره إلى النبي عليه الصلاة والسلام فينظر هل سينظر إليه أم لا؟ وفي هذا جواز أن يجول الإنسان بعينيه في الصلاة، ولا يجوز الالتفات في الصلاة، وقد سألت الشيخ الألباني رحمه الله في عام (1982) فقلت: يا شيخ! هل يجوز للمسلم أن يلتفت في الصلاة، أو ينظر لمن حوله؟ قال: أما هكذا فجائز، وأما هكذا فغير جائز، فجال بعينيه فيمن هم بجوارنا؛ للدلالة على أن اختلاف النظر يمنة ويسرة لا يضر بالصلاة، بخلاف الالتفات في الصلاة، وهذا أمر محل اتفاق.
قال: [(ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني)].
يعني: أن النبي كان ينظر إليه، وهذا شيء يطمئن على أية حال، فهي بشرى.
قال: [(حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي).
الحائط: هو البستان، ومعنى تسورت الحائط: أي: علوت الجدار، ونزلت في بستانه، وكان بيت أبي قتادة بجوار بيت كعب بن مالك، وما بين بيت كعب وبيت أبي قتادة إلا سور الحديقة، فتسلق كعب السور ونزل في بستان أبي قتادة، وهذا جائز لمن علم طيب خاطره بذلك؛ لأن هذا دخول في ملك الغير بغير إذن، وذلك لا يشرع إلا مع العلم السابق بأن صاحب الحق يرضى بذلك، وأما إذا علم عدم رضاه عن ذلك فلا يحل لأحد أن يتسور داره.
قال: [(مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله)].
يعني: أحلف عليك بالله.
قال: [(هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟)].
يقول كعب: نحن وحدنا هنا، فأنا أسألك س