قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، وهو العقيلي أبو عمر الصنعاني نزيل عسقلان، حدثني زيد بن أسلم المدني، عن أبي صالح السمان ذكوان المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل -إذن الحديث قدسي، وليس بلازم إذا سمعت: قال الله عز وجل أن ذلك قرآن، وإنما يمكن أن يكون حديثاً قدسياً- أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)].
وفي رواية عند أبي داود (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء، إن ظن بي ظناً حسناً سيجدني عند ظنه، وإن ظن بي ظن سوء سيجدني عند ظنه).
يعني: لو أن إنساناً تاب إلى الله عز وجل توبة صالحة خالصة، لكنه قال: لا يغفر لي.
فهذا إساءة ظن بالله عز وجل، فالمرء يتوب وتحمله توبته على الإكثار من العمل الصالح، حتى يعضد توبته السابقة، ثم يحمله وجله وخوفه على الإكثار من العبادة والنوافل والقرب إلى الله عز وجل، ثم يحسن الظن بربه أنه لن يخيب رجاءه فيه؛ لأنه لو أساء الظن بربه لأساء المعتقد، ومن قدم على ربه سيئ العقيدة فيه فلا شك أنه يجازى على ذلك.
والمعية في الحديث: معية سمع وعلم وإحاطة لا معية ذات؛ لأن ذات الله العلية فوق السماوات على العرش، فهو تبارك وتعالى مع عباده بسمعه وعلمه، وهذا لا يتنافى مع علوه فوق سماواته.
وهنا انتهى الحديث القدسي، ثم يبدأ الحديث النبوي بالقسم، والقسم لإفادة صدق المقسم، والنبي عليه الصلاة والسلام صادق بغير قسم، فلو أخبر بخبر لكان صادقاً فيه بغير قسم، وإنما أقسم للتأكيد على أهمية الأمر.
قال عليه الصلاة والسلام: (والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة).
والفلاة: الصحراء التي لا زرع فيها ولا ماء، وتصور لو أن شخصاً أخذ دابته ومشى بها في صحراء مقفرة قاحلة، وعليها طعامه وشرابه، ثم أجهده السير فنزل بجوار شجرة وأخلد إلى الراحة، فلما استيقظ لم يجد راحلته، فصار يضرب في شرق الصحراء وغربها ليجد راحلته وضالته، فلم يفلح في ذلك، حتى يئس من رجوعها، فرجع وقال: أنام عند الشجرة حتى الموت -لا سيبل له إلا هذا- لأنه لو أراد أن يرجع إلى مكانه الأول لمات في الطريق، فلأن يموت في الظل خير له من أن يموت في الحر، فرجع فنام، فلما استيقظ وجد دابته وعليها الزاد والمتاع، عند ذلك سيفرح فرحاً شديداً، -ولله المثل الأعلى- فالله أفرح بتوبة العبد إن عاد ورجع إليه من هذا براحلته، فهو لو ارتكب جميع الذنوب والمعاصي فإنه لا يضر الله شيئاً، ولو أتى بجميع الطاعات فلن ينفع الله شيئاً؛ لأن الله تعالى هو النافع والضار، والله تعالى ينفع ابتداءً ولا يضر إلا من اختار المضرة لنفسه أو للغير، فحينئذ يوقع الله به الضرر، كما في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فالله تعالى لا يوصف بالمكر ابتداءً، وإنما يوصف بالمكر جزاءً لمكر سابق، وهذا من عظيم قدرته تبارك وتعالى، وأنه عليم بما تخفي الصدور، وأن مكر الماكرين، وكيد الكائدين لا يخفى عليه عز وجل، فإذا مكر الماكرون فالله تبارك وتعالى يمكر بهم أشد من مكرهم؛ لأنه خير الماكرين سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالمكر ابتداءً؛ لأنها صفة نقص، كما في قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يجوز لأحد أن يقول: إن الله هو المنتقم، لكن الانتقام صفة لله عز وجل في مقابل إجرام المجرمين، فإذا قال العبد: ربنا سوف ينتقم من فلان.
فأنت تذمه ولا تمدحه؛ لأن هذا أسلوب ذم، والله تبارك وتعالى لا يذم، بل يمدح بكل كمال وجلال، وإذا وصف بصفة فيها ذم فاعلم أنها في جهة الكمال، وذلك إذا كانت متعلقة بالذات الإلهية؛ لأنه لا يوصف بهذا إلا في مقابلة فعل استوجب ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، ولم يقل: إنا من المؤمنين منتقمون، أو من الموحدين، أو من المسلمين، أو من الطائعين، وإنما قال: من المجرمين.
والله لا يظلم العبد الموحد، فإذا ظلمه أحد ولم يستطع أن يأخذ حقه، فسأل الله أن يأخذ بحقه من ظالمه، فقال: يا رب! خذ حقي من فلان.
فأخذ الله له حقه من فلان، عند ذلك سيقول: سبحان الله! إن الله قادر على كل شيء.
فما معنى أنه عرف الآن أن الكمال لله؟! مع أن هذا انتقام للإجرام الذي سبق منه، والله تعالى لا يوصف بالانتقام ابتداءً إلا في مقابلة إجرام وظلم.
قوله عليه الصلاة والسلام: (والله! لله أفرح بتوبة)، يقال: فلان فرح، يعني: فلان منتشي، وفلان سعيد، وفلان حصل عنده مناسبة سعيدة ففرح لها وطرب، وفلان لم تسعه الدنيا، وتعبيرات كثيرة جداً تدل على أن هذا العبد في حالة حسنة، وإذا كان هـ