التدليس: هو الإيهام، أي: ذكر كلام يفهمه المستمع على نحو، ويريد منه المتكلم نحواً آخر.
يعني: أنا أوهمك أني سمعت فلاناً يقول شيئاً، وأنا قد سمعته فعلاً وتتلمذت على يديه، لكن هذا الكلام بالذات الذي أنقله لك الآن لم أسمعه منه، فأنا لا أقول: حدثني فلان، ولا أخبرني فلان، ولا سمعت فلاناً، وإنما أقول: قال فلان، وعن فلان.
فمثلاً: سمعت منه جزءاً حديثياً له، وهذا الجزء فيه مائة حديث، لكني لم أسمع منه إلا تسعين حديثاً فقط، وتوفي الشيخ أو رحل قبل أن أسمع العشرة الباقية، ولكن وقع في يدي نسخة الأحاديث لهذا الشيخ، فعز علي بعد أن سمعت معظم هذا الجزء أن أروي بعضه، فقلت في التسعين حديثاً: حدثني فلان حدثني فلان حدثني فلان، والناس يعرفون أني تلميذ له، وأني سمعت هذا الجزء الحديثي منه، ثم أتيت على العشرة الأحاديث الباقية فقلت فيها: عن فلان، أُعَرّضُ للمستمع بروايتي عنه، وأنا لم أسمع منه هذه الأحاديث العشرة.
فهذا يسمى تدليس الإسناد؛ ولذلك نحن نقول: شرط تدليس الإسناد: أن يصرح المدلس بالسماع من شيخه.
أما تدليس التسوية فهو نوع ثان من أنواع التدليس، وهو أشر من تدليس الإسناد.
وتدليس التسوية: أن يكون المدلس أدرك الشيخ الذي يروي عنه، بل وهذا الحديث بعينه الذي يرويه قد سمعه حقاً من الشيخ، فهو يقول فيه: حدثني فلان، وهو صادق في هذا، لكن المدلس بهذا النوع يعمد إلى راو ضعيف فوق شيخه لا تقبل روايته فينقصه من الرواية والإسناد، فمثلاً: إذا كان بقية بن الوليد يروي عن الأوزاعي عن الحارث عن فلان، والحارث ضعيف، فيقوم بقية فيسقط الحارث؛ لأنه ضعيف، فبدل ما كان الأوزاعي يقول: حدثني الحارث عن إبراهيم أو عن سعيد، يقول: قال الأوزاعي: عن سعيد، ويكون قد أسقط راوياً ضعيفاً بين راويين ثقتين، وسمي هذا بتدليس التسوية؛ لأن المدلس يعمد إلى شيخ شيخه وهو ليس عدلاً ولا أهلاً للرواية فيسقطه ليسوي الإسناد كله ثقات، وهذا ما كان يفعله بقية؛ ولذلك يقول علي بن مسهر: كن من بقية على تقية؛ فإن أحاديثه ليست نقية.
فـ بقية هو أستاذ تدليس التسوية، فأي إسناد فيه بقية احذر منه، وتوقف عند كل راو، وانظر كيف تحمَّل، هل تحمل سماعاً أو عنعنة، ولذلك بقية لما كان يسقط شيوخ الأوزاعي الضعفاء، والأوزاعي مع إمامته كان يروي عن ضعفاء، فقيل لـ بقية: لم أسقطت فلاناً؟ قال: لأنه ضعيف، وأنا أجلُّ الأوزاعي أن يروي عن ضعفاء.
ما يخصك من ذلك؟ هو روى عنه، فأنت لا تسقط من روى عنه، فمن أثبت الإسناد فقد برئت ذمته وعهدته، وهذا من الأصول عند أهل العلم.
يقول العلماء: في تدليس الإسناد يلزم المدلس فقط التصريح بالسماع من شيخه، أما في تدليس التسوية فيلزم المدلس بالتصريح بالسماع من عنده إلى آخر السند؛ لأن تدليسه يقع على الإسناد كله وليس على طبقته هو فقط، ولذلك أي إسناد فيه مدلس معروف بتدليس التسوية يُلزم التصريح بالسماع في جميع طبقات السند فوق المدلس.
أما تدليس الشيوخ فهو: أن يكون المدلس ليس له إلا شيخ واحد، فيسميه مرة، ويكنيه مرة، ويلقبه مرة، مما يوهم المستمع أن هؤلاء شيوخ متعددون وكثرة، وهو في الحقيقة شيخ واحد.
واشتهر بهذا الخطيب البغدادي وابن الجوزي وغيرهما من أهل العلم.
أما تدليس البلاد، فالحامل عليه والغرض منه إيهام المستمع الرحلة في طلب العلم، كأن تقول مثلاً: حدثني فلان فيما وراء النهر، وفي الحقيقة إنما توجد ترعة بينك وبين الذي حدثك، فتقول: حدثني فلان في بلاد ما وراء النهر، وأنت تقصد تلك الترعة التي بينك وبينه، فالمستمع له يظن بلد ما وراء النهر حقيقة.
كذلك مثلاً: لو قال: حدثني فلان بالأندلس، المستمع سيظنه الأندلس القطر المعروف، ثم يفاجأ بأن الأندلس هذه اسم لشارع، أو اسم حي شعبي، ففي هذه الحالة هذا تدليس.
كذلك حينما يقول شخص: وقد ألفت هذا الكتاب في مدينة الرياض في سنة كذا، وانتهيت منه بعد صلاة العشاء، فالقارئ سيقع في قلبه أنها الرياض التي في أرض الحجاز، وهي في الحقيقة عبارة عن عزبة اسمها الرياض، فذلك من تدليس البلاد، وهو نوع من أنواع كثيرة، لكن على أية حال أخطر أنواع التدليس على الإطلاق تدليس التسوية، ثم يليه الإسناد، ثم يليه الشيوخ.