قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي أبو عبد الرحمن البصري وأصله مكي- حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم -وهو زيد بن أسلم العدوي المدني، وكان مولى لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه- عن أبيه -أي: أسلم العدوي - أن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)] (حملت على فرس عتيق) أي: حملت فلاناً على فرس لي سريع جيد، يعني: فرس عربي أصيل، فمعنى العتيق: الجيد الأصيل، والحمل تمليك بإجماع أهل العلم، إلا أن يشترط الحامل الحمل، كأن يقول: حملت فرسي هذا على الجهاد في سبيل الله، فإذا فرغ من الجهاد رد الفرس إليه، ولكن إذا نودي للجهاد وجب عليه أن يدفع فرسه لمن يحمل عليه، أي: للمحتاج إليه.
الشاهد من هذا: أن حمل الفرس في الجهاد بخلاف حمل الفارس على الفرس، الحمل تمليك، إذا دفعت إليك الفرس وقلت لك: حملتك عليه، أي: ملكتك إياه ليحملك في الجهاد، وهذا معنى الحمل.
فقول عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، كأنه أراد أن يقول: ملكت فلاناً الفرس للحمل عليه في سبيل الله عز وجل.
ثم قال: [(فأضاعه صاحبه)] أي: مالكه ضيع هذا الفرس الذي حملته عليه، بمعنى لم يعتن به ولم يعلفه ولم يكرمه، بل قصر في خدمة الفرس من حيث الإطعام؛ لأن هذا المحمول كان فقيراً قليل المال، حتى أصيب الفرس بضعف وهزال، ولكنه على أية حال بمجرد أن انتقل من ملك عمر رضي الله عنه فقد تملكه هذا المسلم.
ثم قال: [(فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص)] يعني: غلب على ظني لقلة مال المحمول أنه في يوم لا بد أن يبيعه؛ لأنه ليس له مال، ولا يستطيع أن يقوم على خدمة الفرس.
فوقع في نفس عمر شراء هذا الفرس مرة أخرى؛ لأنه فرس عتيق جيد سريع.
ثم قال: [(فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)].
يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم ما تردد في أنفسهم شيء يتعلق بالحلال والحرام إلا ويرجعون إلى المرجعية العظمى، وهو النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة الحلال والحرام في جميع شئونهم.
ولما حاك في نفس عمر رضي الله عنه أن يشتري هذا الفرس لو أراد صاحبه أن يبيعه، ظن أن هذا البيع ربما يكون فاسداً وباطلاً، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك)] أي: لا تشتره، معنى الابتياع: الشراء.
فالنبي عليه الصلاة والسلام سمى شراء الصدقة رجوعاً فيها، حتى ولو كان بعوض، فما بالك بمن يتصدق ويرجع في صدقته، أو يتصدق ويمنُّ بهذه الصدقة، لا شك أن المن بالصدقة من الكبائر؛ ولذلك أخرج مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان، والمسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
(المنان)، أي: الذي يعطي العطية ثم يقول لمن أعطاه: أنا أعطيتك يوم كذا وكذا وكذا، ويظل يمن بها عليه، فهذا بلا شك قد أضاع أجره، ولو قال قولاً معروفاً ولم يتصدق لكان خيراً له، فهنا قال: [(لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)].
يعني: الذي يتصدق ويأخذ الصدقة مرة أخرى، ولو عن طريق الشراء، كالكلب يقيء ما في بطنه، ثم يأكل هذا القيء مرة أخرى.
جمهور أهل العلم على أن القيء نجس، خاصة قيء الكلب، ولذلك مثل به النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يقل: كالرجل مثلاً يعود في قيئه، وإنما قال: (كالكلب)؛ لأن الكلب نجس لعابه، وهذا مذهب جميع الفقهاء، فإذا كان اللعاب نجساً، فكذلك قيئه يكون نجساً.
وذهب جماهير العلماء إلى أن آكل القيء كآكل النجس، وهو حرام، وهذا مذهب من قال: إن العودة في الصدقة حرام، وبعضهم قال: مكروه إلا الوالد مع ولده.