الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فبعد أن تعرضنا في كتاب الحج في الباب الأول لبيان ما يحرم على الحاج وما يباح له في ثيابه، انتقلنا بعد ذلك إلى المواقيت وقلنا: إن المواقيت منها المكاني ومنها الزماني، فهناك ميقات زماني للحج وهو أشهر الحج، وبينا أن أشهر الحج: هي شوال وذو القعدة، ووقع الخلاف في ذي الحجة هل هو الشهر كله أم بعضه؟ ورجحنا أن مذهب جماهير العلماء أن بعض شهر ذي الحجة هو من أشهر الحج وليس كل شهر ذي الحجة، وينتهي هذا البعض من الشهر بانتهاء ليل يوم النحر؛ لما رجحناه هناك من اتفاق العلماء على أن من لم يدرك الوقوف بعرفة في نهار التاسع من ذي الحجة إنما يجزئه أن يقف ولو بعض الليل من ليلة النحر، ثم ينزل إلى مزدلفة فإن أدرك المبيت بها ولو في جزء يسير من الليل كذلك صح مبيته في مزدلفة، فإن لم يدرك الوقوف في مزدلفة في هذه الليلة صح حجه وعليه دم؛ لأن المبيت في مزدلفة في مذهب جماهير الفقهاء واجب، وهو الراجح من الأدلة، وهو فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
أما ما يقال: إن شهر ذي الحجة كله من الأشهر الحرم فليس هذا بقول متين ولا تقوم عليه الأدلة؛ ولأنه يترتب عليه جواز التمتع والقران في العشرين يوماً الباقية منه ولا قائل بذلك، وإن قال بذلك بعض أهل العلم فيرد عليهم؛ لأن التمتع والقران إنما يسميان بذلك لكونهما قد وقعا في عام واحد، فإن الذي يقرن بين حجه وعمرته بعد أداء نسك الحج يلزمه إذا أتى قارناً أن يسوق الهدي معه ويتمتع ويبقى في ملابس إحرامه حتى يدخل الحج القادم؛ أي: من العام المقبل، وإذا أتى متمتعاً يلزمه أن يعتمر في شهر ذي الحجة -أي: في العشرين يوماً الأخيرة منه- ثم يظل متمتعاً ولا يخرج من مكة حتى يدرك الحج من العام المقبل.
وشهر ذي الحجة هو تمام السنة، والمحرم ابتداء سنة جديدة، وإنما سمي تمتعاً لأن الحاج يتمتع بالعمرة إلى الحج من نفس العام، وسمي قراناً لأن القارن يقرن بين العمرة والحج من نفس العام، فإذا اعتبرنا أن شهر ذي الحجة كله هو من أشهر الحج وليست العشرة الأيام الأوائل منه فهذا يعني حصول المشقة للناس، كما أنه من جهة المعنى فاسد؛ لأن التمتع والقران يقعان في عام واحد لا في عامين متتاليين.
أما الميقات المكاني: فإن ميقات أهل الشام ومن مر بهم هو الجحفة، وهي المعروفة اليوم برابغ، ورابغ قبل الجحفة بشيء يسير، وانعقد الإجماع على جواز الإحرام منه؛ لأن الجحفة صار الآن خرباً لا ينزله أحد، وميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، وهي المعروفة بأبيار علي، وميقات اليمن هو يلملم، وميقات العراق هو ذات عرق، وميقات أهل نجد ومن مر بهم هو وادي السيل.
قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المواقيت: (هن لهن -أي: هذه المواقيت لأهلها المحددة لهم- ولمن مر بهن من غير أهلهن)، يعني: الجحفة ميقاتك باعتبارك من أهل الشام أو من أهل مصر، أما إذا كنت بالمدينة أو مررت بالمدينة فإن ميقاتك هو ميقات أهل المدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام بعد أن حدد المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج أو العمرة).
وقلنا في هذه المواقيت: إنه لا يجوز لأحد قط إذا كان يريد نسكاً عمرة أو حجاً أن يتجاوز هذه المواقيت ولا أن يعبرها بغير إحرام، فإذا كنت قاصداً أداء النسك وما أخرجك من بيتك إلا هذا القصد فيحرم عليك أن تعبر الميقات وأن تتجاوزه بغير إحرام، فإن تجاوزته بغير إحرام لزمك الرجوع إلى الميقات للإحرام من جديد، وعليك الإثم؛ أي: إثم عمد التجاوز بغير إحرام، تستغفر الله تعالى وتتوب إليه منه.
أو أنك تحرم من مكانك بعد تجاوز الميقات وعليك دم، ويسن لمن أحرم من الميقات أن يشترط، فبعد أن يقول: لبيك اللهم عمرة، أو حجاً، أو عمرة وحجاً فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛ لأنه لو منعك مانع بعد الإحرام وبعد تجاوز الميقات من مرض أو وعكة أو علة أو حتى إجراء في الأوراق الرسمية؛ ربما ذهبت إلى المطار أو إلى الميناء فقالوا: جوازك مزيف مثلاً، أو قالوا: التأشيرة غير صحيحة وغير سليمة، أو أوراقك ليس لها عندنا رقم على الكمبيوتر، أو غير ذلك، فإنهم لا يتورعون أن يرجعوك في أقرب طائرة أو باخرة إلى بلدك مرة أخرى وأنت بملابس الإحرام.
فإنما في هذه الحالة لابد أنك ستتحلل من إحرامك؛ فإن كنت قد اشترطت من الميقات وقت الإحرام وقلت: فإن حبسني حابس -أي: منعني مانع- فمحلي حيث حبستني.
أي: فجوز لي يا رب أن أتحلل في نفس المكان الذي منعني فيه العذر وحبسني فيه الحابس؛ فإن قدمت في وقت الإحرام هذا الشرط ومنعك مانع أو حبسك حابس جاز لك أن تتحلل ولا شيء عليك، وإن لم تشترط ومنعك مانع أو حبسك حابس فلابد أن تتحلل، ولكن يبقى عليك دم، هذا