وله كذلك رسائل كثيرة في كليات تتعلق بالمسلمين وجزئيات، وفي إحياء سنن نيرات، وفي إماتة البدع المظلمات، وله كلام طويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مواجهاً به أهل المراتب العاليات.
وقد كتب رسالة إلى من كان يسعى في إحداث أمور باطلة على المسلمين، جديرة بأن يتأملها كل داعية إلى الله؛ ليعلم حرص العلماء على العامة، وغضبتهم عندما تنتهك حرمات الله تعالى.
ابن العطار وهو تلميذه يقول: كنت يوماً بين يديه لتصحيح درس عليه في مختصر علوم الحديث الأصغر، فلما فرغت منه قال لي: رأيت الليلة في المنام كأني كنت سابحاً في بحر، وكأني خرجت منه إلى شاطئه، وإذا أنا بشخص قد غرق فيه، وقد تعلق بخشبة على وجهه لحظة ثم غرق، قلت: يا سيدي! أأنت علمت الشخص من هو؟ قال: نعم.
قلت: من هو؟ قال: ابن النجار.
قلت: فما أوّلته؟ -أي: ما تأويل هذه الرؤيا؟ - قال: يظهر قليلاً ثم يخفى خفاء لا ظهور بعده، أي: يظهر ببدعته وبنكده قليلاً فيعكّر صفو البلاد، ثم يكتب الله تعالى له الإزالة والخفاء فلا يظهر بعدها مع نفاق في قلبه.
هذه هي الرؤيا.
يقول: وكان من قصة المذكور ابن النجار أنه سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة، فقام الشيخ قدّس الله روحه مع جماعة من العلماء فأزالوها بإذن الله تعالى، ونصر الله الحق وأهله، فغضب لذلك ابن النجار لكراهيته لمصلحة المسلمين ونصيحة الدين، وبعث إلى النووي يهدده ويقول: أنت الذي تحزّب العلماء عليّ، فكتب إليه النووي قدّس الله روحه كتاباً هذا صورته.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
من يحيى النووي.
اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده! التارك مصلحة نفسه في تهيئة جهاده له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين؛ حملاً مني لك على ما هو شأن المؤمنين من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين؛ فأُنكر عليه بلساني وبقلبي؛ لأنها غيبة لا أعلم صحتها، ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام، فجرى ما جرى من قول قائل للسلطان وفّقه الله لكريم الخيرات: إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء.
إذاً: علمنا أن سبب فعل السلطان أنه لم يفعل ذلك بهواه، وإنما حينما أفتاه علماء السلطة بأن هذه البساتين يحل له ردها في مذهب بعض العلماء من السلف، فحينما رأى ذلك السلطان وأن بعض العلماء السالكين قالوا بجواز ذلك وبحله؛ فعله، وهو في هذه الحال لا يقدم على حرام ولا على مكروه، وإنما أخذ بفتوى بعض من أهل العلم.
قال: إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء.
فالإمام النووي رد عليه بقوله: وهذا من الافتراء الصريح والكذب القبيح، فوجب عليّ وعلى جميع من علم هذا من العلماء أن يبيّن بطلان هذه المقالة ودحض هذه الشناعة، وأنها خلاف إجماع المسلمين.
إذاً: المسألة فيها إجماع بالمنع، فلا يجوز للسلطان أن ينتزع أرضاً من أحد رعيته إلا أن يشتريها منه أو يكافئه عليها، حتى يرضى صاحبها.
قال: وأنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين.
أي: هذه الفتوى التي قلتها والتي أبلغتها للسلطان لم يقل بها أحد من أئمة الدين.
قال: وأن ينهوا ذلك إلى سلطان المسلمين، وأنا أكلفكم أن تبلغوا هذا إلى السلطان، فإنه يجب على الناس نصيحته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة).
وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته، وقد شاع بين الخواص والعوام أن السلطان كثير الاعتناء بالشرع، ومحافظ على العمل به، وأنه بنى المدرسة لطوائف العلماء، ورتّب القضاة من المذاهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع، وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان أعز الله أنصاره بالشرع، وأنه إذا طلب طالب منه العمل بالشرع أمر بذلك ولم يخالفه، فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما افتراه ودلّس على السلطان، وأظهر أن انتزاعها من يد مُلّاكها جائز عند بعض العلماء، وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد؛ وجب عليهم نصيحة السلطان، وتبيين الأمر له على وجهه الصحيح، وأن هذا خلاف إجماع المسلمين، فإنه يجب عليهم نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين.
فوفقهم الله تعالى للاتفاق على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحداً بعينه بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب.
أي أنه لم يقل له: يا ابن النجار! أنت كذاب، وأنت مفتر! إنما قال: من زعم لك أن انتزاعها جائز من يد مُلّاكها فقد كذب.
قال: وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك؛ لِما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها ولي الأمر، أدام الله نعمه عليه لتنصحوه وتبينوا حكم الشرع له.
ثم بلّغني جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات حصل لي العلم بقولهم: أنك كرهت س