الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب التاسع من كتاب الإمارة: (الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به).
الإمام جنة.
أي: وقاية وحماية وستر، ودفع لأذى الكفار والمشركين عن أهل الإيمان والتوحيد.
[حدثنا إبراهيم] وهو إبراهيم بن سفيان الذي روى صحيح مسلم.
وإبراهيم لم يسمع الصحيح كله من مسلم، وإنما سمع جزءاً من الصحيح، وفاته بعض المواطن وبعض الأحاديث، فأخذها عن مسلم إجازة لا سماعاً.
ومعنى الإجازة: أن الراوي صاحب الحديث يكتب بكتابه إلى فلان، ويقول له: خذ هذا فإنه حديثي فاروه عني، ولم يسمعه منه ولكنه قد أجازه فيه.
ولذلك لا يقول المجاز: حدثني فلان، ولا سمعت فلاناً.
وإنما يقول: حدثني فلان إجازة.
لبيان نوع التحمّل.
أو يقول: عن فلان.
فلو قال عن فلان فلا يلزمه أن يقول: إجازة.
وإنما يلزمه أن يقول: إجازة إذا استخدم الألفاظ التي تفيد السماع: كحدثنا وأنبأنا وأخبرنا.
فلو قال: حدثني فلان، أو أنبأني فلان أو أخبرني فلان ولم يسمع منه بل تحمّل عنه إجازة، فيلزمه أن يقول: حدثني فلان إجازة.
أخبرني فلان إجازة.
أنبأني فلان إجازة.
والألفاظ التي تحتمل السماع وعدمه كـ (قال) و (عن) لا يلزم فيها أن يصرّح بالإجازة، ولو قال: عن فلان أو قال فلان فسواء قال: إجازة أو لم يقل فلا بأس عليه، ولا يُنسب إلى التدليس حينئذ، إنما لو قال: حدثني فلان وكانت الرواية إجازة ولم يبيّن فيُنسب إلى التدليس حينئذ، فيقال: فلان مدلّس؛ لأنه صرّح بالسماع ولم يسمع، فأوهم القارئ والممتنع أنه يصاحب مجالسة ويتلقى هذا الحديث مشافهة ولم يكن هذا منه فكان مدلساً، والقبيح هو الإيهام.
فـ إبراهيم بن سفيان راو الصحيح عادة لم يسمع هذا الحديث من الإمام مسلم؛ ولذلك قال فيه: عن مسلم، فلا يلزمه أن يقول: إجازة.
قال مسلم: [حدثني زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، ونساء هي قرية في حوالي العراق قرب المدائن أو قرب إيران الآن- حدثنا شبابة بن سوار].
وشبابة مدائني وكذلك شيخه ورقاء، والمدائن مدينة كبيرة جداً من بلاد فارس، ويهم من يظن أن المدائن هي مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنسبة إلى المدينة مدني، أما النسبة إلى المدائن مدائني.
فيقال: ورقاء المدائني وليس المدني.
[عن أبي الزناد عن الأعرج].
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني عن الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني وجُل رواية الأعرج عن أبي هريرة.
[قال: عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنة)] فهذا توكيد بـ (إنَّ) المشددة.
يعني: مهمة الإمام والخليفة العام والولاة والسلاطين والأمراء: أنهم جُنة لرعاياهم، يحمونهم ويذبون عنهم ويدافعون عنهم كل أنواع الأذى، ويجلبون لهم كل أنواع الخير.
هذه مهمة الإمام الحق الذي يُظل في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، هذه هي مهمته، ولا شك أن جُل الأئمة اليوم لا يفعلون ذلك، وندر أن يكون الإمام عدلاً يتقي الله في رعيته.
قال: (إنما الإمام جُنة) ومعنى جُنة: أي وقاية وستراً.
ونحن في زمان نتمنى فيه أن يرفع الإمام عنا يده وسوطه، ولا علاقة له بعد ذلك في أي فساد يقع علينا.
أي: بلغنا في السوء مبلغاً عظيماً جداً، حتى تمنينا فيه ألا يكون الإمام لنا لا جُنة ولا مهلكة، ولا علاقة له بالرعية؛ لبُعده الشديد جداً عن المهمة التي لأجلها تولى، وعن المهمة التي لأجلها صار إماماً وبايعه من بايعه، وأطاعه من أطاعه.
إنما الإمام جُنة: أي: وقاية وستراً؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته.
قال: [(يُقاتل من ورائه ويتقى به)] أي: إذا كان هذا الإمام جُنة -وقاية وستراً- وقائماً بحق الإمامة وبواجبها؛ فلا بد أن يقاتل معه الرعية إذا طلب الإمام منهم المقاتلة، ولا بد أن يكونوا من خلفه مباشرة؛ لأن الإمام في حقيقة الأمر لا يقاتل بنفسه وإنما يقاتل بأمره ونهيه، ويُنسب النصر والهزيمة له، وإن لم يكن قد باشر هو بنفسه النصر ولم يباشر بنفسه الهزيمة، فيقال: انتصر فلان في حرب كذا، أو في غزوة كذا.
وربما كان قابعاً في غرفة العمليات لم يواجه عدواً مواجهة شخصية بنفسه؛ وذلك لأن بذل الجهد العقلي أعظم بكثير جداً من بذل الجهد البدني، فالجهد البدني يبذله أي إنسان، أما العقلي والتكتيك العسكري، ومع