باب الاستخلاف وتركه

قال: (باب الاستخلاف وتركه) أي: باب جواز الاستخلاف.

إذا كان هناك خليفة عام ووافته المنية أو مرض مرضاً أوشك فيه على الموت فإنه يجوز له أن يولي كما يجوز له أن يترك الاستخلاف.

أما جواز الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختاره للناس من دون الناس، وإذا تركت الخلافة فقد تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف من بعده أحداً، وإنما انعقدت البيعة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجوز تركها ويجوز انعقادها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن ابن عمر - عبد الله بن عمر العدوي - رضي الله عنهما قال: حضرت أبي حين أصيب].

أي: حين طُعن في صلاة الفجر، والذي طعنه هو أبو لؤلؤة وكان مجوسياً ما سجد لله فضلاً عن أنه أسلم، ولذلك لما سأل عمر بعد إصابته: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، قال: الحمد لله أن لم يطعني أحد سجد لله سجدة.

قال ابن عمر: [حضرت أبي حين أُصيب، فأثنوا عليه -أي: سمعت ثناء الناس عليه- وقالوا: جزاك الله خيراً، فقال: راغب وراهب].

أي: أن المرء بين راغب وراهب، بين خائف وراج، بين متمن بانعقاد الخلافة وبين متوقف فيها، فكلمة راغب وراهب محمولة على كل هذه المعاني.

قال: [قالوا: استخلف -أي: يا عمر -، فقال: أتحمّل أمركم حياً وميتاً؟] أي: ما يدريه لو أنه استخلف أيصيب أم يخطئ، أيؤدي الأمانة أم يخونها؟ فقال: [لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي].

إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أراد أحد أن يصنف في مناقبه مصنفات لكانت حمل بعير! إن عمر رضي الله عنه يتمنى أن يخرج من الدنيا كفافاً ليس له من الخير شيء ولا يوجد عليه من الشر شيء! هذا عمر الإمام العادل! هذا فاروق الأمة الذي فرّق الله به بين الحق والباطل! هذا أول من صدع بالحق حول الكعبة على حين تخوف من الناس، فكان إسلامه نصراً لدين الله عز وجل ولنبيه ولأصحابه الكرام! وها هو الذي يتمنى مع كل هذا أن يخرج من الدنيا لا له ولا عليه! عمر رضي الله عنه الذي كان يبكي إذا تعثّرت ناقة في العراق أو بمصر أو بالشام أو في سائر البلدان، وهو الذي أخذ على عاتقه أنه مسئول عنها أمام الله عز وجل! إنه وال على كل شيء! على الإنسان وعلى الطير والحيوانات والحشرات وكل أصناف المخلوقات.

قال: [لوددت أني خرجت منها على الكفاف لا علي -أي: من الإثم- ولا لي -أي: من الثواب-].

ولا شك أن هذا رجل سيأتي يوم القيامة لا يحاسب؛ لأنه لا له ولا عليه.

قال: [فإن أستخلف -أي: بعد ضغطكم علي- فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك -أي: الاستخلاف- فقد تركه من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم].

إن عمر بهذا الكلام الجميل يعطي درساً عظيماً جداً، وهو أنه لابد أن يكون للإنسان المسلم سلف في أقواله وأعماله، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، إذا ستخلفني أبو بكر الصديق رضي الله عنه عليكم، فإن استخلفت عليكم أحداً فاعلموا أن لي سلفاً في هذا الاستخلاف، وإن تركتكم بغير استخلاف أو عاجلتني المنية بغير ذلك، فقد عاجلت المنية عليه الصلاة والسلام ولم يستخلف، فأنا في كلا الحالين لي سلف فيما أفعل وفيما أقول؛ ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.

قال -أي عبد الله بن عمر -: [فعرفت أنه -أي: عمر - حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف] لأنه ذكر أن أبا بكر استخلف وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الاستخلاف، فإذا تعارض قول أو فعل أبي بكر مع قول أو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فالمقدم هو فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فانظر إلى هذه الفائدة التي استنبطها عبد الله بن عمر، فقد كان فقيهاً محنكاً.

قال: [فعلمت أنه حين ذكر رسول الله -أي: ما كان منه من شأن الاستخلاف- غير مستخلف] لأنه لا يقدم قول أبي بكر وفعله على قول النبي عليه الصلاة والسلام وفعله.

قال: [فعلمت أنه غير مستخلف] إذا كان الأمر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر يقدّم النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الثابت أن عمر بن الخطاب قد استخلف، ولكن ليست خلافة عين، وإنما خلافة انعقدت بعدة أشخاص وكانوا ستة.

الأول: عثمان بن عفان، الثاني: علي بن أبي طالب، الثالث: أبو عبيدة بن الجراح، الرابع: عبد الرحمن بن عوف، الخامس:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015