قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر).
وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم -وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه - وهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما قال: (رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)].
أما فقوله: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر) يعني: لما رأى هذا الرجل ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد على مجموع الرؤى لا على رؤية هذا الرجل؛ لأن جل الصحابة الذين أخبروا برؤاهم أخبروا أنها في السبع الأواخر، بخلاف رجل واحد فإنه قال: إني رأيتها في ليلة السابع والعشرين، وإلا فمعظم رؤى الصحابة إنما كانت في العشر الأواخر.
وقوله: (فاطلبوها في الوتر منها) أي: في الليالي الوترية، ليلة الحادي والعشرين، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع والعشرين.
فهذه الليالي هي مناط ومحل ليلة القدر.
أما كون النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ليلة القدر، أو يعلم اسم الله الأعظم، أو يعلم ساعة الإجابة في يوم الجمعة أو غير ذلك، وأخفى ذلك على هذه الأمة، فإنما هذا الإخفاء كان لمصلحة عظيمة جداً، وهي أن يتحرى الناس العبادة، ويجتهدوا فيها في معظم هذه الأوقات؛ لأنك لو علمت يقيناً أن الساعة التي يجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة هي ساعة كذا بالتحديد، لانقطعت في هذه الساعة للعبادة والدعاء والذكر والتسبيح، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عمّى ذلك على الأمة فقال: (إن في الجمعة لساعة ما يدعو فيها أحد إلا استجيب له).
ولذلك اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة، فمنهم من قال: هي في الصباح، ومن قال: هي في المساء، ومن قال: هي قبيل المغرب، ومن قال: في ساعة الجمعة، ومن قال: بين يدي الإمام وهو يخطب، وكل هذا إنما هو لمصلحة الأمة، وهي أن تجتهد في الدعاء والذكر والتسبيح والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم من أوله إلى آخره.
كذلك أخفى النبي عليه الصلاة والسلام علينا اسم الله الأعظم؛ حتى نجتهد في دعاء الله عز وجل بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما أمرنا تعالى بقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: ادعوه بجميع الأسماء، فلو أننا علمنا اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لما دعوناه إلا بهذا الاسم فقط، فإخفاء هذا الاسم فيه مصلحة عظيمة جداً.
كذلك لو أننا علمنا يقيناً ليلة القدر في رمضان لما صلينا ولا تعبدنا ولا ذكرنا ولا سبحنا الله تعالى بشيء إلا في هذه الليلة؛ لأنها ليلة هي خير من ألف شهر، فربما محت ذنوب سنين طويلة، فأنا وأنت قد نكتفي بالعبادة في هذه الليلة، فكان من المصلحة أن يخفى علينا محل هذه الليلة من بين الليالي؛ حتى يكون محل الاجتهاد واسعاً مدة عشر ليال على الصحيح.