إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فمع الباب الخامس من كتاب الصيام في صحيح مسلم، وهو باب في غاية الأهمية، والذي سبقه باب هام جداً، وهو هل العبرة في دخول الشهر على الحساب الفلكي المحدث أم أنه على الرؤية العينية؟ ذكرنا هناك أن الاعتماد إنما هو على الرؤية العينية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) لا على الحساب الفلكي، إنما هذا أمر محدث.
والحساب الفلكي لا بأس أن نستأنس به، بحيث يكون في المرتبة الثانية بعد مرتبة الرؤية بالعين، أما أن يكون الاعتماد عليه وترك الرؤية بالعين فهذا ترك لشيء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أما رؤية الهلال في بلد هل تلزم جميع البلاد، أو تلزم بعض البلاد دون بعضها، أو تلزم البلد الذي رؤي فيه الهلال فحسب؟ هذه ثلاثة مذاهب في هذه المسألة.
فبعضهم يقول: إذا رئي الهلال في بلد لزم الأخذ به في جميع بلاد المسلمين.
وبعضهم يقول: بل يلزم فقط القطر الذي رئي فيه دون غيره، وهو ما يعبر عنه بأسلوب آخر: أن كل قطر اشترك في الليل والنهار ولو كان بينهم اختلاف يسير، فإن رؤية الهلال في إحدى بلدان هذا القطر تلزم جميع القطر دون غيره، يعني: نحن الآن في مصر والشام والعراق والأردن والسعودية وغيرها من البلاد المجاورة والمحيطة التي على خط واحد من خط الاستواء، فالنهار عندنا جميعاً واحد، والليل عندنا جميعاً واحد، وإن كانت هناك فروق يسيرة نصف ساعة ربع ساعة فهذا أمر لا يضر، فكلنا نشترك في الليل والنهار، ليلنا واحد ونهارنا واحد.
أما لو نظرت إلى بلاد أوروبا مثلاً أو أقصى المغرب العربي، أو بلاد أمريكا لوجدت أن الليل هنا نهار هناك، والنهار هناك ليل هنا، فهل يلزم من كان في أمريكا رؤية الهلال هنا في مصر؟
صلى الله عليه وسلم لا، لا يلزمه.
وهذا أحد المذاهب وهو أقواها في المسألة؛ لأن الهلال ربما يظهر الآن في هذه اللحظة التي نحن فيها، وهذه اللحظة هي هناك بدء النهار في أمريكا، فلو قلنا لهم: ظهر الهلال عندنا لقالوا: لقد صلينا الفجر وشربنا الشاي ولم تنعقد نيتنا، فليلكم هو عندنا نهار، فهل يصح أن نلزمهم برؤية الهلال عندنا؟ لا، لا يصح، ولذلك هذا الرأي الثاني هو أرجح الأقوال في المسألة.
الرأي الثالث: أن كل أهل بلد رأوا الهلال فإنما هذه الرؤية تلزمهم دون غيرهم، الخلاف هنا كيف نحدد هذا البلد؟ هل هي بهذه المسميات والمصطلحات التي وضعها المستعمرون والأجانب؟ يعني: هل رؤية أهل مصر تلزم أهل ليبيا أم لا تلزمهم؟ إذا قلنا بأن رؤية أهل مصر لا تلزم رؤية أهل ليبيا، فكيف نحدد المسافة والحدود بين البلدين، هل هي بأقصى البلاد من جهة الشمال لمصر ومن جهة الجنوب لليبيا؟ لو أن رجلاً ليبياً وآخر مصرياً بينهما جدار، وهو الذي يفصل حدود مصر عن حدود ليبيا، فإذا رأى المصري الهلال هل تلزم هذه الرؤية صاحبه الليبي الذي بينه وبينه ربما (10سم) أو (15سم)، أم لليبي أن يقول له: أنت رؤيتك لا تلزمني؛ لأني ليبي وأنت مصري؟ هذه أمور هي أدعى لتفرق الأمة وتمزق وحدتها، والذي يترجح لدي في القضية: أن رؤيتنا تلزم جميع البلاد التي تشترك معنا في الليل والنهار، ولا تلزم غيرهم من أصحاب الأقطار البعيدة الذين يختلفون معنا في أصل الليل والنهار، لا في بعض الليل والنهار، فإذا زادوا عنا ساعة أو قلوا عنا ساعة فإن رؤيتهم تلزمنا ورؤيتنا تلزمهم كذلك.