الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)] هذا كلام عام في صيام الفرض وصيام الواجب وصيام النافلة، ربما دعاك غير مسلم في رمضان لتناول الطعام، فجوابك أن تقول: إني صائم، وربما دعاك مسلم صاحب عذر في ترك الصيام وهو لا يذكر أنه في صيام أو أنه في رمضان، فجوابك أن تقول: إني صائم.
أما في صيام النافلة لو قال لك أحد الناس: تفضل للطعام عندنا، فقل: إني صائم.
يقول الإمام النووي رحمه الله: (قوله: (فليقل: إني صائم) محمول على أنه يقول له اعتذاراً له وإعلاماً بحاله) يعني: يعتذر إليه عن سبب تخلفه عن قبول الدعوة أو الإقبال على الطعام بإظهار حاله، وذلك بأن يقول: أنا صائم، وليس هذا من الرياء، إلا أن ينوي الصائم بصيامه رياءً، وقلَّ أن ينوي صائم بصيامه رياء، فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، يعني: إذا دعاك إنسان يوم الإثنين أو يوم الخميس على الغداء وأنت تصوم هذين اليومين، فإما أن تقول له: أنا في هذا اليوم صائم، فإن أذن لك في عدم الحضور فقد سقط عنك وجوب الدعوة، وإن لم يسمح لك وجب في حقك الحضور، ولا يجب في حقك الطعام؛ لأنه يكفيك في حضرة الطعام أن تقول: إني صائم.
أما إجابة الدعوة فواجبة، فليس هناك تلازم بين الحضور وأكل الطعام، بل يمكن أن تحضر ولا تطعم، وإنما يكون الواجب في حقك أمرين: الأمر الأول: أن تظهر حالك وتقول: إني صائم.
الأمر الثاني: أن تدعو لصاحب الطعام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فإن أكلت وإلا فصل) والصلاة هنا بمعنى الدعاء، أي: الدعاء لصاحب الطعام.
والأفضل للصائم إذا دعي إلى طعام إن كان يشق على صاحب الطعام صومه أن يفطر، وإلا فلا.
يقول النووي رحمه الله: (إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر، وإلا فلا).
يعني: إذا لم يكن مشقة على صاحب الطعام، ولا أن هذا الأمر يحزنه، لا بأس أن تستمر في صيامك هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً يحرم الفطر، كما لو كنت تصوم نذراً أو كفارة أو تقضي قضاءً من رمضان، أما في حال صوم التطوع فيجوز الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المتنفل في الصيام قال: (المتطوع أمير نفسه) يعني: المتنفل في الصيام لو بدأ ونوى الصيام من أول اليوم فإن له أن يفطر في الضحى، أو في الظهر، أو حتى في العصر، أو قبيل المغرب؛ لأنه أمير نفسه، لكن الأفضل والمستحب -لا الواجب- في حقه أن يكمل صومه ما دام قد شرع فيه، لكن لو أفطر فليس عليه شيء.
وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصلاة والصيام وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن هناك حاجة ولا ضرورة تدعو وتلح إلى إظهارها.
كذلك لا تترك الأعمال العبادية خشية الرياء، فلا يقل قائل: أنا لن أصلي في المسجد وإنما سأصلي في البيت، هل يستقيم هذا؟ لا، لا يستقيم؛ لأن الله تعالى أمره بحضور الجماعة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بحضور الجماعة، فهذا الباب لا يدخله رياء، وإن دخله رياء عند بعض الأشخاص فتجب المجاهدة في حقهم لدفع هذا الرياء، أما أن يتخلف عما أمره الله عز وجل به احتجاجاً بالرياء، فإن هذا أمر لا يستقيم.
وفي هذا الحديث: الإشارة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار عند سببه، هذا كلام مأخوذ من اعتذار الرجل عند صاحب الطعام بعدم الأكل بسبب الصيام، وهذا عذر في الغالب مقبول عند الناس، بخلاف ما لو قلت: أنا لا أريد الطعام، أو اعتذرت عن تناول الطعام ولم تبد سبباً، ربما يوسوس الشيطان لصاحب الطعام بأن هذا الضيف يأنف أن يأكل من طعامه، خاصة لو كان هذا الضيف غنياً وصاحب الطعام فقيراً، فربما حاك في نفس هذا الفقير صاحب الطعام أن هذا الغني يتعفف ويتأفف أن يأكل من طعام الفقير، فتحدث المفسدة، وتتغير القلوب، ولذلك من حسن العشرة إبداء السبب وإبداء العذر بين يدي صاحب العذر.