قال: [حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة، وهذا أبو خيثمة ليس هو زهير بن حرب؛ لأن أبا خيثمة زهير بن حرب يروي عنه مسلم مباشرة، أما أبو خيثمة الذي فوق ذلك بطبقتين فهو زهير بن معاوية بن حديج الجعفي، كوفي نزل الجزيرة، وهو ثقة ثبت، غير أن سماعه من أبي إسحاق السبيعي كان بآخرة.
قال: [أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق] وهو أبو إسحاق السبيعي الكوفي عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمداني، ثقة ومكثر وعابد، لكنه اختلط في آخر حياته.
وكنا من قبل تكلمنا تقريباً عن أحكام المختلطين وأحكام الاختلاط، وقلنا: إن الراوي إما أن يكون ثقة في ذاكرته وحفظه، وإما أن يكون ثقة في كتابه، فإما أن يكون قد اعتمد في تحصيل العلم وبثّه على ذاكرته وحفظ صدره، وإما أن يكون قد اعتمد على كتابه وقلمه، وهذا ما يسميه أهل الحديث بالضبط، فيسمون الأول بضبط الصدر، ويسمون الثاني بضبط الكتاب، ولضبط الكتاب شروط، ولضبط الصدر شروط.
أما شروط ضبط الكتاب فهي: الشرط الأول: أن يكتب خلف الشيخ، أو يكتب خلف المستملي الذي يقرؤه في حضرة الشيخ.
الشرط الثاني: أن يعرض ما كتبه على الشيخ، فيقره الشيخ بصحة ما كتب، فإن اعتذر الشيخ عن معارضة الكتاب أو مقابلته انتقلنا إل الشرط الثالث.
الشرط الثالث: أن يراجع ويقابل هذه النسخة على المستملي الذي يقرأ على الشيخ، أو على أقرانه الذين كانوا قد سمعوا منه في مجلس التحديث.
الشرط الرابع: أن يحافظ على الكتاب من التلف والحرق والغرق وغير ذلك من سائر أسباب التلف، حتى يتسنى له التحديث من هذا الكتاب.
الشرط الخامس: إذا حدّث من الكتاب فإنه ممنوع عليه أن يحدّث من حفظه، ولا يعتمد على ذاكرته إلا أن يكون ممن يعتمد عليه في ضبط صدره وكتابه.
وهناك مذاهب لأهل العلم: أن ضبط الصدر أحياناً يكون ضبط صدر وضبط كتاب، كالإمام الدارقطني مثلاً كان من أئمة الحفظ، ومع هذا كان يكتب، وتعجّب منه بعض أصحابه ذات يوم.
قالوا: أتكتب؟ إن الذي يكتب لا يدرك الحفظ خلف الشيخ، وكان قد كتب خلف الشيخ في مجلس واحد (18) حديثاً، وكان الواحد منهم إذا كتب ذهب إلى بيته ليحفظ ما كان قد كتبه خلف الشيخ، فقال الدارقطني لأصحابه وأقرانه: إن شئتم حدثتكم من كتابي، وإن شئتم حدثتكم من حفظي، فلما تحدوه أن يكون قد حفظ ما قد كتب كرر عليهم الأحاديث مرتبة، ولم يخالف في حرف واحد، فهذا كان قد جمع بين ضبط الصدر وضبط الكتاب.
لكننا نقول بالشروط الأولى لمن اعتمد على الكتاب فحسب.
أما ضبط الصدر فشرطه: أن يكون قادراً على الإتيان بالمعلومة أو بالرواية، أو بالراوي سنداً أو متناً في أي وقت طُلب منه ذلك.
أحياناً تلحق الآفة ضبط الصدر وضبط الكتاب، فيمكن للكتاب أن يغرق أو يُحرق أو يتلف، أو يقع عليه سائل يزيله ويمسحه من الصحيفة أبداً، وربما هذا الراوي لم يتقن ما في هذا الكتاب، وربما ذهب ليحدث بما علق في ذهنه، فصار يركّب أسانيد لمتون، ويُلحق متوناً بأسانيد ليست لها، أو ربما يروي عن راو حديثاً معيناً، والحقيقة أن هذا الحديث عن راو آخر، فهو لم يكذب، ولكنه غلب على ظنه أنه قد أتقن حفظ هذا الحديث، فحدّث به على ما غلب على ظنه، وإذا بالحقيقة تخالف ذلك.
وإن المحدثين والرواة عنه إذا أدركوا شيئاً من ذلك امتنع بعضهم أن يحدث عنه بعد ضياع الكتاب أو حرقه أو غرقه أو غير ذلك، فلو أنهم امتنعوا عن الرواية عنه فتكون أحاديثهم عن هذا الراوي صحيحة؛ لأنهم لم يرووا عنه إلا في حال إتقانه وضبطه للكتاب، فلما وقع به الاختلاط أمسكوا عن الرواية عنه، وأما من حدّث عنه بعد الاختلاط فروايته مردودة قولاً واحداً.
وأما من حدث عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط ولم يُعلم في هذه الرواية بعينها أكانت هذه الرواية قبل الاختلاط أم بعده؟ فالأمر في ذلك محل اجتهاد المحدثين، فإن كان لهم شواهد ومتابعات أخرى تدل على أن هذه الرواية قد وافق فيها هذا الراوي المختلط غيره من الثقات فيستأنس بهذه الراوية وإلا فلا.
وكثير من الحُكام والولاة والسلاطين وأبناء الرواة، حينما وقع الاختلاط حبسوا هؤلاء الرواة ومنعوهم من الرواية، وليس إهانة لهم بل تكريماً وأي تكريم، إذ تبقى روايتهم بغير خدش، فهذا الراوي حينما اختلط منعناه من الرواية.
لتكون أحاديثه كلها التي رواها وحدث بها أحاديث صحيحة، فهذا من باب التكريم له لا من باب الإهانة، وهذا تماماً كما يسميه العلماء (الحجر على السفيه)، حينما اختل عقله منعوه بعد ذلك من التصرفات ولم يلزموه بتصرف من تصرفاته.
فهذا الراوي وهو أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حديج الجعفي روى عن أبي إسحاق السبيعي بعد أن اختلط أبو إسحاق، ونحن اتفقنا أن الراوي إذا روى عن الراوي الآخر أو عن شيخه بعد الاختلاط فروايته مردودة، فما