عن عائشة قالت: لمّا مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور، فأما عمارة فإنه بقي إلى خلافة عمر بن الخطاب مع الوحوش، فدُل عليه أخوه، فسار إليه وتحيّن وقت وروده الماء، فلما رأى أخاه فر فوثب وأمسكه، فبقي يصيح: أرسلني أرسلني يا أخي! فلم يرسله فخارت قوته من الخوف ومات في الحال.
فعداده في المجانين الذين يبعثون على ما كانوا عليه قبل ذهاب العقل، فيُبعث هذا الرجل على الكفر والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تعالى المغفرة والسلامة.
قالت: واجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: فارقت ديننا.
أي: أنه لم يبق بين رسل قريش من الكافرين وبين النجاشي شيء، واستقر الأمر لدى النجاشي أن هؤلاء أصحاب الحق ودخل النجاشي في الإسلام.
فقامت حرب جديدة بين النجاشي وبين أهل الحبشة.
قالوا له: فارقت ديننا.
قالت: وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفناً، وقال: اركبوا فإن هزمت فامضوا وإن ظفرت فاثبتوا.
أرأيتم الموقف الرائع جداً.
ولو أني كنت مكان النجاشي لقلت لهم: ألست أنا الذي ضيّعت نفسي من أجلكم؟ إذاً: فقفوا بجانبي حتى وإن تقطعت إرباً كما وقفت بجانبكم! ولكنه صنع لهم سفناً وأركبهم البحر، وزودهم بالطعام والشراب الكافي، وقال لهم: حرب بيني وبين قومي لا علاقة لكم بها، فانتظروني في البحر فإن أنا ظفرت بهم فاثبتوا في الأرض، وإن هزمت فانطلقوا إلى بلادكم آمنين.
قالت: ثم عمد إلى كتاب فكتب فيها: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.
هذه الكلمات التي كتبها النجاشي، وإنه واجب على من آمن أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أما قوله: وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه وغير ذلك فهذا من باب المستحبات لا من باب الواجبات، وأنتم تعلمون أن النجاشي كان نصرانياً؛ فأراد أن يبيّن مسألة مهمة في اعتقاده أن عيسى كان عبداً لله وليس ابناً لله.
قالت: ثم جعله في قباءة وخرج إلى الحبشة، وصفوا له -أي: التقى الصفان- فقال: يا معشر الحبشة! فانظروا إلى هذا الذكاء، فإنه لم يقاتلهم فجميعهم قد خرج عليه؛ فمن سيقاتل؟ فقال: يا معشر الحبشة! ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى.
قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة.
قال: فما بالكم أي: خرجتم علي؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد.
قال: فما تقولون فيه؟ قالوا: هو ابن الله.
فقال بعد أن وضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً.
فهو حينما أمّن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في البحر أتى بورقة وقال أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، وقام بإطباق الورقة وجعلها في قباءة ولم يسلمها لـ جعفر، وخرج على الحبشة وقال لهم: فما تقولون أنتم؟ قالوا: نقول: إنه ابن الله، فوضع يده على القباءة وقال: والله ما فارقت ما هو كائن.
أي: أنه يقول مثل هذا، فهم فهموا أنه موافق بذلك، ولكنه يشير إلى الورقة التي بداخل القباءة.
وهذا ذكاء من الملك، ولكن منهم من كان ذكياً في الخير ومنهم من كان ذكياً في الشر.
فقال لهم: فما تقولون أنتم؟ قالوا: هو ابن الله؟ قال: والله وأنا لا أعدو هذا.
وفي هذا جواز استخدام المعاريض، والنجاة من القتل حتى وإن كان هذا بالحلف الكاذب؛ لأن الحرب خدعة، فقال بعد أن وضع يده على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً، وإنما عنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه ظناً منهم أنه وافقهم أنه ابن الله، واستقر له الملك، ولم يدخل في حرب مع هؤلاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.