قال: [(فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا.
قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها)] أي: في أشرف الأقوام، وما أرسل الله تعالى رسولاً ولا نبياً إلا أرسله في أشرف أهل زمانه، وأنتم تعلمون أن قريشاً أشرف العرب في الجاهلية والإسلام إلى يومنا هذا، ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو خيار من خيار، وبنو عبد المطلب أشرف قوم في قريش ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ -وفي رواية: هل كان في آبائه من ملك؟ -وفي قراءة: من ملِك- فزعمت أن لا.
فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه)] فهذا في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، لو كان أحد من آبائه ملكاً فربما قامت الشبهة أن هذا الرجل ما خرج بالذي خرج به إلا لطلب ملك آبائه، ولكنك تزعم الآن أنه ليس من آبائه ملك، فانتفت عنه هذه الشبهة.
قال: [(وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم -ثم يقرر هرقل حقيقة عظيمة- قال: وهم أتباع الرسل)] أي الضعفاء؛ لأن الأغنياء دائماً يأنفون أن يكونوا أتباعاً لرجل يظنون أنه من مستواهم وهم من مستواه، فكيف يكونون في يوم من الأيام تبعاً له، فالغني يأنف والكبير يأنف والشريف يأنف، ولا يأنف الضعيف المسكين المتذلل الخاضع أن يكون تابعاً لغيره؛ ولذلك تجدون أن أصبر الناس على طلب العلم هم الفقراء؛ ولذلك كان مالك رحمه الله إذا استشاره أحد للقضاء يقول: لا تتول القضاء حتى تتم العلم؛ لأنك إن عزلت عن القضاء لا ترجع إلى مجلس العلم؛ لأنه صار شريفاً بالقضاء.
ومن المستحيل أنه بعد أن كان قاضياً يجلس أمام مالك، وهكذا شأن الأغنياء، ونسمع كثيراً -خاصة من العرب- اليوم من يقول: لِم العلم إذاً؟ لأجل المال نحن أصحاب مال.
إذاً: لا قيمة للعلم، كثير من العرب يقيسون طلب العلم بهذا القياس، فإن إبليس لا يخطر على باله قياس العلم على المصالح الدنيوية بهذا الشكل.
قال: [(قلت: بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا)] لأنهم كانوا ينادونه في الجاهلية قبل الإسلام: محمد الصادق.
قال: [(فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله)] وهذا قياس أولوي: أنت تزعم أنه لم يكن يكذب في حديث الناس، أي أنه حينما كان يتكلم معكم لم يكن يكذب، واشتهر عنه الصدق في القول ونقل الأخبار، فإذا كان هذا على هذا النحو معكم وبينكم فسيدع الكذب على الله من باب أولى.
أي: يستحيل أن يكون صادقاً مع الناس وكاذبا ًمع ربه.
قال: [(وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ -أي: كرهاً وبغضاً في هذا الدين- فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب)] وكذلك الإيمان لا يمكن أن يخرج من القلب إذا تذوق القلب حلاوة الإيمان، إذا خالط بشاشة الإيمان انشراح الصدر تمكّنت منه ولا يمكن أن تخرج منه.
قال: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب).
وفي رواية: (إذا خالطت بشاشته القلوب).
قال: [(وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ -أي: أتباع هذا الرجل- فزعمت أنهم يزيدون)] وهذا بيان عملي على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن المؤمنين دائماً في زيادة، فهو مؤمن لأنه دائماً يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فبدأ الإيمان نظرياً قولاً فحسب، فلما نزلت التكاليف والأعمال كانت ركناً من أركان الإيمان؛ ولذلك من مات في مكة قبل العمل مات على كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه لم يكلف إلا ما قد بُلّغ، وبعد نزول التكاليف لا يمكن أن يُنسب كمال الإيمان وتمامه إلى أحد من المسلمين إلا أن يأتي بهذه الأعمال، فكلما ازداد المرء عملاً في الإيمان والإسلام ازداد به إيماناً.
قال: [(وكذلك الإيمان -أي: يزيد- حتى يتم)] أي: حتى يكمل ويكون تماماً، ولذلك بعد أن نزلت العقائد والتكاليف والأحكام والحلال والحرام والحدود والآداب والأخلاق وغير ذلك -قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أي: تمت وكملت وصارت في قمة الكمال والتمام.
فلو قيل: لِم لم تنزل هذه الآية في مكة في الزمن الأول، وإنما نزلت في مكة في عرفات في حجة الوداع، أي: في أواخر عهد النبوة عند كمال الشريعة وتمام الإيمان؟
صلى الله عليه وسلم لأن الدين لم يكمل ولم يتم بعد.
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي على هذا النحو بعد كماله وتمامه.
قال: [(وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى -لي