في رواية: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة)، ولكن أشهر الروايات (لا تصلوا العصر) وهي رواية الجمهور.
قال الإمام النووي: لنعتبر أن كلا الروايتين صحيحة، رواية: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة).
ورواية: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)؛ لأنه يمكن الجمع بين الروايتين، والجمع بينهما أولى من رد أحدهما، فإن قلت: إن إحدى الروايتين صحيحة والأخرى باطلة -فأنا في هذه الحالة سأرد هذه الرواية، ولا أعمل بها مطلقاً- فلا شك أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وهذه قاعدة أصولية.
قال الإمام النووي: (فيُحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة) أن هذا الأمر وجّه إلى مقدمة الجيش الذي سبق في أول الأمر، وحينما اجتمعت مؤخرة الجيش في وقت متأخر -أي: قرب صلاة العصر- قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة).
فهم قد صلوا الظهر في المدينة، أما الذي خرج قبل صلاة الظهر -أي: في مقدمة الجيش- فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة)).
ويقول: (وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها، فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم).
صلوا أو لا تصلوا.
ووجه التعارض أنه قال: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) والذي يعارضه هو الذي استقر عندهم قولاً وعملاً أنهم يصلون الصلاة لوقتها، وأن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، فالسنة العملية بيّنت ذلك، فهذا تعارض عندهم فيما استقر عندهم وعملوا به عشر سنوات أو قريباً من ذلك، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) فلما تعارضت الأدلة عندهم اجتهدوا، بأن الصلاة مأمور بها في الوقت مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحد الظهر -أو العصر- إلا في بني قريظة)، المبادرة بالذهاب إليهم.
أي: كما تقول أنت لابنك: لا يزال هناك وقت إلى أن يؤذن المغرب تقريباً نصف ساعة، فلابد أن تصل إلى الشيخ الذي تحفظ عنده القرآن وتصلي عنده المغرب، فانتبه أن تتأخر، وحينما تصل هناك اتصل بي أو أنا أتصل بك، وسأكلم الشيخ بنفسي، أو اجعل الشيخ يتصل بي ويكلمني.
فأنا في هذه الحالة ما أردت أن ابني لو أدركه المغرب في الطريق لا يصلي إلى أن يدخل وقت العشاء، وإنما أردت المبادرة والمسارعة إلى الذهاب للشيخ.
قال: (أراد بذلك المبادرة بالذهاب إليهم، وأن لا يُشتغل عنه بشيء).
أي: لا يُشتغل عن مجاهدة ومقاتلة بني قريظة بشيء، إلا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث إنه تأخير.
(فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ).
وفي هذا الحديث دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى، وهذا مذهب جماهير العلماء خلافاً للظاهرية الذين يأخذون بظاهر النص.
وفي هذا الحديث أنه لا يُعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده، إذا بذل وسعه في الاجتهاد.
يعني: إذا أدى ما عليه حتى وإن أخطأ فلا يلام، المهم أنه بذل الوسع واستفرغ الجهد، وكان أهلاً لهذا الاجتهاد، فحينئذ لو أخطأ لا يلام؛ لأنه قد أدى ما عليه، وإذا كان الله تعالى يؤجره على اجتهاده فكيف تعنّفه أنت على النتيجة التي وصل إليها؟ وقد يستدل بهذا الحديث طائفة على أن كل مجتهد مصيب، وطائفة أخرى تقول: لم يصرح بإصابة الطائفتين.
يعني: ليس هناك تصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: أنتم عندكم حق.
وقال لهؤلاء: عندكم حق.
وإنما سكت ولم يعنّف.
والأئمة يقولون في قضية الإجماع السكوتي الذي هو محل نزاع بين أهل العلم الأصوليين: هل يُنسب لساكت قول أم لا؟ الشافعي يقول: لا يُنسب لساكت قول.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فيختلف عن بقية الأمة؛ لأن سكوتي أنا عن الباطل يبقيه باطلاً كما هو، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على باطل قط، بل لا يحل له أن يسكت على باطل قط؛ ولذلك قال العلماء في تعريف السنة: هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته.
فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذا فهذا سنة.
وإذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً كان سنة.
إذا رأى شيئاً أو سمع بشيء ولم يُنكره كان كما لو كان هو الذي فعل، أو هو الذي قال؛ لأنه لو كان باطلاً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم وجوباً شرعياً أن ينكره على الفور والتو.
فلو فعل صحابي شيئاً بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم نُسب هذا الفعل إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن الحجة ليست في فعل الصاحب، وإنما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفعل صاحبه، والنبي عليه الصلاة والسلام عصمه ربه في تلقي الوحي عن الله، وفي تبليغ الوحي إلى الناس، والسنة التقريرية من الوحي المبلّغ.
وكذلك من سنته: أوصافه عليه الصلاة