قال: [حدثنا أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا ابن نمير عن هشام أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها: أن سعداً قال وتحجّر كلمه للبرء] تحجّر.
أي: يبس وتماثل جرحه للشفاء.
والكلم: هو الجرح.
رجل مكلوم.
أي: مجروح أو مصاب، كالإنسان الذي عضّه الكلب، فأثر العض يسمى كلِب، ولذلك فالعيادات التي خُصصت لمعالجة عضات الكلاب والحيوانات تسمى عيادات (الكلِب).
والكلم: هو الجُرح.
ومن الأخطاء اللغوية أن تقول: جرح؛ لأن الجرح ضد التعديل.
فلما أقول: فلان هذا فاسق، فلان ضعيف، فلان ثقة أو لا بأس به، أو فلان كذّاب، فهذا يسمى جَرحاً، فأنا أجرح فلاناً، أي: أذكر فيه قولاً شديداً سيئاً؛ لأنه يناسب حالته ويناسب عدالته.
ولما أقول: حافظ، إمام، ثقة، أمير المؤمنين، فهذا يسمى تعديلاً.
أي: أني أقول فيه قولاً عدلاً.
قال: [وتحجّر كلمه للبرء]، والبرء هو: الشفاء، أي: تماثل جرح سعد بن معاذ للشفاء.
قال: [(فقال -أي: سعد بن معاذ - اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه)].
أي: أنه يقول: يا رب! إنك لتعلم مني ومن سريرتي أنه ليس هناك عمل أحب إليّ من أن أُقاتل قوماً كذّبوا نبيك وأخرجوه من بلده.
ثم قال: [(اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها)] أي: فأيقظها مرة أخرى وأحيها ليكون شيهداً.
قال: [(فانفجرت من لبّته)].
اللبّة هي: النحر.
وفي رواية: (فانفجرت من ليلته).
قال القاضي عياض: وهو الصواب.
أي: بمجرد أن دعا سعد بن معاذ انفجرت.
قال: [(فانفجرت من لبّته فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم)] أي: دم سعد بن معاذ يسيل إليهم في الخيمة التي ضُربت في المسجد، فكان الدم يسيل منه وينهمر انهماراً ربما أفزع كل من رأى الدم من لبّته، هذا هو الأصل الذي ذكره الحافظ في الفتح.
فانفجر الدم أي: سال الدم.
قوله: (من لبّته) أي: من صفحة عنقه، كأنه أُصيب في عنقه رضي الله عنه وكانت له خيمة في المسجد.
قال: [(فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قِبلِكم؟ فإذا سعد جرحه يغذ دماً)] يغذّ يعني: يسيل سيلاناً عظيماً، فمات منها رضي الله عنه.
وفي هذا أن الله تعالى استجاب له وجعل حتفه فيها؛ لأنه قال: فافجرها واجعل موتي فيها.
فإن قيل: ألا يتعارض دعاء سعد مع: (لا يتمنين أحدكم الموت)؟
صلى الله عليه وسلم النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)، فيدعو الإنسان على نفسه فيقول: يا رب! أهلكني، يا رب! خذني، يا رب! أمتني ونحن نسمع الجُهّال يقولون هذا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت لمجرد نزول الضر والبأس بالعبد، لكن سعد بن معاذ تمنى الموت شهيداً، وأنتم تعلمون ما للشهيد من مناقب وفضائل، فهو تمنى الموت بعد بذل الجهد في الجهاد؛ ليموت ويلقى الله تعالى شهيداً.
وأنت نفسك الآن تتمنى لو أن الحرب تقوم في بلد من البلدان فتشارك فيها فتُقتل فتكون شهيداً، فهذا تمنٍ للموت، لكنه تمنٍ للموت في ساحة الوغى، في ساحة الجهاد والقتال، ولا بأس بتمني الموت هاهنا، أما تمني الموت المنهي عنه هو أن يتمنى المرء الموت لضر نزل به ولألم أو هم، فيقول: يا رب! لم يبق إلا الموت فأنا أريد أن أموت الآن.
وقوله: (فافجرها) فيه رأيان، والرأي الذي رجّحه الحافظ في الفتح: أي: فافجر الحرب بيننا وبينهم مرة أخرى حتى أشارك فيها وأموت.
أما النووي فقد رجّح أنه طلب أن يفجّر الله الجرح مرة أخرى بعد أن كان جفّ، فسال الدم من هذا الجرح -إما من الأكحل وإما من اللبة: صفحة العنق- حتى مات منها.