قال الإمام النووي: (في هذا الحديث أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد صار حربياً وجرت عليه أحكام أهل الحرب)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمّن ومنَّ على بني قريظة، ولكنهم نقضوا العهد، فأمره الله تعالى أن يخرج إليهم، فأمر أصحابه: أن اخرجوا إلى يهود، ولما ذهب إليهم ناداهم وقال: (اعلموا أن الأرض لله ورسوله).
هي لله تعالى يورثها من عباده من يشاء، وأن الله تعالى مالكها، وأن المسلم إذا ظاهر على أرض صارت ملكاً له.
وهذا الذي يرد به على النصارى إذ يقولون: إن مصر أرض قبطية، وكثير من الناس يتحرّج أن يكون له أصول قبطية، بل هو شرف عظيم جداً أن تفارق أباك الكافر؛ ولذلك حينما دخل عمرو بن العاص مصر كان أهلها في ذلك الزمان أقباطاً، -أي: نصارى- فمنهم من دخل في الإسلام ومنهم من لم يدخل، وأما من دخل فلا شك أن نسله مسلم إلى يومنا هذا، فربما يكون لك أصول نصرانية، أو أصول يهودية، أو أصل أتى من جزيرة العرب مع الفاتحين والغزاة، فأياً كان نسبك ونسلك فلا حرج عليك حينئذ، أما نحن فنقول: إن الأرض كانت قبطية، وبمجرد ظهور عمرو بن العاص عليها صارت أرضاً إسلامية لا حق لليهود ولا للنصارى ولا لساكني هذه الأرض فيها.
وهذه من مسائل الإجماع في قضايا الاعتقاد والجهاد: أن المسلم إذا ظاهر على أرض -أي: غلب أهلها في قتال وغزو خلف أمير- فلا شك أن هذه الأرض تصير ملكاً لله تعالى ورسوله، وهذه الملكية تنتقل إلى الولاة والأمراء المسلمين.
فلما يقول هؤلاء إن الأرض لهم.
فقولهم مجرد أمانٍ وهيهات أن تتحقق لهم هذه الأماني، فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده.
فإذا نقض صاحب العهد عهده أو صاحب الذمة ذمته وصاحب الأمان والمن ما أمن عليه صار حربياً، وجرت عليه أحكام أهل الحرب.
أي أن دمه صار هدراً حلالاً، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المن على من أراد.
وفي هذا الحديث: (أنه إذا من عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنما ينفع المن فيما مضى لا فيما بقي أو في المستقبل، وكانت قريظة في أمان أعطاهم النبي عليه الصلاة والسلام ومن عليهم بهذا، ثم حاربوا النبي عليه الصلاة والسلام ونقضوا العهد، وظاهروا قريش -أي: تواطئوا واتفقوا مع قريش- على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] إلى آخر الآية الأخرى).
والإمام النووي عليه رحمة الله تكلم فيما يتعلق بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب بكلام طويل، لكن على أية حال أقوى من هذا الكلام ما ذكره غيره كالحافظ ابن حجر.
وجاء في صحيح مسلم كذلك في كتاب المساقاة، قال الإمام: حدثنا محمد بن رافع وإسحاق بن منصور الكوسج قالا: عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر نفس الحديث ونفس الإسناد، أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز.
إذاً: لم يجل النبي عليه الصلاة والسلام اليهود من أرض الحجاز تماماً، وإنما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة إجلائهم، ويتمكن من ذلك عند نقض العهد والميثاق، فإنه إذا حصل شيء من ذلك في وقت ما فعلى إمام الزمان المعيّن إجلاءهم، فـ عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر أراد إخراج اليهود منها، والمعلوم أن خيبر أُخذت عنوة ولم تؤخذ صلحاً ولا سلماً، فأراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظُهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين مع أنها كانت لليهود، لكنها تنتقل إلى المسلمين فوراً بمجرد الغلبة والقهر لعدوهم، وقد سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها.
أي: أنهم يعملون فيها لصالح النبي عليه الصلاة والسلام ولصالح المسلمين، ولهم نصف الثمر.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نقركم بها على ذلك ما شئنا).
أي: على هذا الشرط الذي اشترطتموه بشرط إخراجكم منها متى نشاء.
وفي هذا: جواز عقد المؤاجرة أو المساقاة المفتوح غير المحدد المدة، وهذا فيما يتعلق بكراء الأرض.
قال: (نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء).
وفي هذا دليل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: إخراجهم من بعضها لا من جزيرة العرب كلها، وهذا البعض هو الحجاز خاصة؛ لأن تيماء من جزيرة العرب، لكنها ليست من الحجاز، فحينما أجلاهم إلى تيماء تبيّن أن المقصود بجزيرة العرب: الحجاز.
والإمام مالك في كتاب الموطأ في الباب ال