قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت النار والجنة) إلى آخره.
هذا الحديث على ظاهره، وأن الله جعل في النار والجنة تمييزاً تدركان به فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائماً).
والجنة والنار الأصل أنهما ليستا عاقلتين، لم يكن لهما إدراك ولا تمييز ولا عقل، ومع هذا تخاصمت الجنة مع النار، وهذا يدل على أن الله تعالى يجعل في موقف هذه الخصومة إدراكاً وتمييزاً للجنة والنار حتى يتكلمان، فتقول الجنة: إنما يدخلني الضعفاء والمساكين، والعجزة، والسقط من الناس.
ويجعل الله للنار إدراكاً حتى تتكلم، وهذا ليس بعزيز على الله.
وأنتم تعلمون أنه قد تكلمت الجمادات والحيوانات والطيور والسباع منذ الأزل، منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا كرامة من الله عز وجل لبعض عباده، كما تكلم الطير والهوام والحشرات والدواب، حتى الريح تكلمت لسليمان عليه الصلاة والسلام، وتكلمت الجمادات للنبي عليه الصلاة والسلام حتى تكلم البعير الذي لا يتكلم، واشتكى صاحبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فحينئذ لا بأس أن يركب الله عز وجل إدراكاً وتمييزاً حتى تحصل المحاجة أو المناظرة بين الجنة والنار وليس هذا ببعيد على الله، فالله تعالى على كل شيء قدير.
قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟).
أما (سقطهم) فهم الضعفاء المتحقرون منهم.
الذين لا يأبه لهم الناس كالعامل والخادم، فقد يكون الخادم عند الله أشرف وأفضل من المدير العام بصلاته وصيامه، وزكاته، وحسن خلقه، وأثقل شيء يوضع في الميزان هو حسن الخلق، فمثلاً: المدير العام متغطرس، متكبر، لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، معه عامل يمسح له المكتب يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، ولديه حسن الخلق، فهو أفضل عند الله من المدير العام، ولذلك سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه عن رجل شريف في القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون هذا عندكم؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح أن ينكح، وإذا تكلم أن يسمع، وإذا دخل أن يقام له.
فمر آخر، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع، وإذا دخل لا يأبه له.
قال: والله لهذا خير من ملئ الأرض من ذاك).
يعني: الذي ترونه ضعيفاً متضعفاً مسكيناً وليست له قيمة في المجتمع، هذا عند الله في الميزان أثقل من ملء الأرض ممن أثنيتم عليه خيراً، فالموازين الشرعية تختلف عن موازين العباد.
قال: (فالسقط: هم الضعفاء والمتحقرون منهم.
والعجز: جمع عاجز.
أي: العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة).
يعني: ليس هو لواء، ولا عميد، ولا عقيد، ولا غني، فهو إنسان ضعيف فقير، لا قيمة له في المجتمع في نظر الناس، فهذا هو العاجز.
أي عجز عن طلب الدنيا والتمكن فيها، والثروة والشوكة، وفي رواية قال: (وغرتهم).
وهم أصحاب الحاجة، والفاقة، والجوع، وفي راوية: (الغرث) وهو: الجوع.
وغرتهم: هم البله الغافلون، جمع أبله غافل، وهم الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا، والذي يطلب الدنيا ويكون حاذقاً فتقاً فيها على حساب دينه أعد الله له النار، وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله).
ولكنه حديث ضعيف.
قال: (وقال القاضي: معناه أن سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون، فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة وهم ثابتو الإيمان، وصحيحوا العقائد، وهم أكثر المؤمنين، وهم أكثر أهل الجنة).
والمعتزلة هؤلاء أهل كلام وفلسفة، وما أضل المعتزلة إلا ترجمة كتب اليونان من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون.
يعني: كانت الترجمة هذه سلاح ذو حدين أعظمها الضلال؛ ولذلك لما ترجمت هذه الكتب إلى العربية تأثر كثير من المسلمين بفكر اليونانيين فبدءوا يحكمون عقولهم في الشرع حتى قدموا العقل على النقل فضلوا، ولابد أن يضل الإنسان الذي تخلق بهذا الخلق، ولذلك لما حار كثير منهم في طلب الحق وهو على فراش موته قال: أبرء إلى الله من كل ما قلت، وأرجع إلى دين العجائز.
وذلك لأنه قدم عقله على الشرع، فكان يختار من العبادة ما يزكي له هذا المبدأ وهذا الأصل؛ لأنه ترك الشرع وراء ظهره، فتمنى وهو على فراش الموت أنه لم يترك الشرع، وهذا هو الفخر الرازي إمام كبير يقول وهو على فراش الموت: أبرء إلى الله من كل قول أو فعل عملته أو فعلته مخالف للسنة وأرجع إلى دين العجائز.
يعني: يا ليتني على عقيدة أمي وجدتي وأبي الذين لم يكن لهم شيء في العلم، ولا يعرفون أي شيء عن هذه الأشياء.
وأنتم تعلمون أن التلفزيون دمر عقائد العجائز، وعقائد الفلاحين، وعقائد الصعايدة، وعقائد طلاب العلم.
قال: (وهم أكثر أهل الجنة، وأكثر المؤمنين.
وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات) فعامة أهل الجنة هم عامة المؤمنين، وأ