قال: (باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشياً).
قال عليه الصلاة والسلام: (أنهم يلهمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما يلهمون النفس) وسيأتي معنا، لكنهم على أية حال يلهمون ذلك بكرة وعشياً، وقد اتفقنا أنه ليس في الجنة بكرة وعشي، وإنما مقدار البكور والعشي.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة)].
مع أن آنية الذهب والفضة حرام علينا في الدنيا، ولكن الله تعالى أباحه لنا في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الذي يأكل في صفائح الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، وهذا لمن أكل بهما في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله تعالى أحل لنا ما كان حراماً علينا، فلباسنا الحرير والديباج، وهذا كان محرماً على الرجال، وأباحه الله تعالى، والله تعالى حرم علينا الخمر وأباحه لنا في الآخرة، ولكن خمر الآخرة ليس كخمر الدنيا من الإسكار وذهاب العقل وغير ذلك، بل هو شراب لذيذ سماه الله تعالى خمراً، ليكافئ عباده الذين امتنعوا عن شرب الخمر في الدنيا بخمر في الآخرة، لكن هيهات هيهات بين خمر الدنيا وخمر الآخرة.
قال: [(ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشياً)].
في الدرس الماضي لما ذكرنا أن الجنة درجات عديدة، لعل ذلك اختلط على بعض السامعين بأبواب الجنة وقال: بل درجات الجنة ثمان، والصواب أن أبواب الجنة ثمانية، أما درجات الجنة فكثيرة متعددة لا يعلمها إلا الله.
كما أنه لا يصح أن يقال: إن درجات الجنة على عدد آيات القرآن الكريم، كما أن أهل العلم اختلفوا في عدد آيات القرآن الكريم، فأحياناً تجد الآية عند قارئ آية، وتجدها عند قارئ آخر آيتين.
قال: (لا اختلاف بينهم ولا تباغض) أي: لا حسد، ولا تباغض، ولا اختلاف، ولا مناحرة، ولا مناظرة، كل هذا في الدنيا أما في الآخرة فلا.
ثم إنه كذلك قد اختلط على الأخ قول الأنصاري لما بكى عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله! تذكرت الموت، وعلمت أن الموت يفرق بيني وبينك؛ لأنك في الجنة في منزلة هي أعلى من منزلتي، فأنا لا أراك في الجنة، فنزل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأنصاري: أبشر)، يعني ستراني لأنك تحبني فأنت معي.
وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، وهم أهل الطاعة لله وطاعة الرسول مع: {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (أبشر) يعني: أنت معي في الجنة، وحديث: الذي سأل عن الساعة فقال له: (وما أعددت لها؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت)، فالله تعالى يجعل لأهل المراتب الدنيا في الجنة نظرة إلى من فوقهم كما يجعل لمن فوقهم نظرة إليهم، وهذا أمر مقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة: أن من فوق يرى من تحت وأن من تحت يرى من فوق.
وفي الجنة لا اختلاط كما هو مشاهد في الدنيا، فالله عز وجل ينزع من نفس المؤمن شهوة التطلع إلى عورات الآخرين، كما أن الشهوة تنزع من الخلق في أرض المحشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر الناس حفاة، عراة، غرلاً)، أي: في أرض المحشر، أي: على هيئتهم قبل الختان والخفض، أي: قطع القطعة الزائدة من فرج المرأة وذكر الرجل، فإن كل شيء يرد إلى صاحبه حتى الأظافر، والشعر، كل شيء أخذ منك يرد إليك، حتى هذه القطعة من اللحم الصغيرة التي أخذت من عضوك إذا كنت ذكراً أو أنثى ترد إليك وتحشر عرياناً حافياً على هذا النحو، (فقالت عائشة: يا رسول الله! ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر حينذاك أشد من هذا)، يعني: لا يخطر ببال أحد قط أن ينظر إلى عورة أحد.
وهذا مشاهد، فلو نزل بك غم أو وصلك خبر مفزع أو أصابك هم، انصرفت شهوتك تماماً، والمتزوجون يعلمون ذلك، ولو أنك في قمة شهوتك ثم طرق الباب انصرفت شهوتك، والمتزوج يعلم ذلك، وكلنا يعلم ذلك من نفسه ومن حاله، فإذا كان هذا مجرد طارق أتى ليطرق بشر يخبرك أو بنبأ عظيم بوفاة عزيز، أو بنكبة نزلت، أو ي