قال النووي: في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه كان أول من سن القتل).
قال: الكفل هو الجزء والنصيب.
يعني: لا بد أنه يأخذ شيئاً وحظاً ونصيباً من كل أحداث القتل التي تكون إلى قيام الساعة؛ لأنه هو الذي لفت أنظار الخلق إلى هذا الجرم العظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها -أي اقتدى به فيها- لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء).
وهذا إلى قيام الساعة.
كما (أنه من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وكذلك هذا إلى قيام الساعة.
فالذي يسن خيراً له نصيب ممن اقتدى به؛ لأنه سبب ذلك، وهو الذي سن الخير، والذي يسن شراً لا بد أن له نصيباً من هذا الشر.
لأنه أول من أحدث الشر.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله وإن لم يفعل).
لأن الدلالة على الشر قامت مقام الفعل، فلو أنك أعطيت سكيناً لرجل وقلت له: اذهب فاقتل فلاناً فأنت قاتل وإن لم تباشر القتل بنفسك؛ لأنك متواطئ على القتل.
ولذلك قيل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لم يقتلها فلان وفلان.
قال: ألم يتواطئوا على قتلها؟ قالوا: بلى.
قال: لو تمالأ وتواطأ أهل اليمن على قتلها لقتلتهم بها.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أن العدد الكثير يقتل بالواحد إذا تواطئوا على قتله، فلو تواطأ جماعة على قتل رجل قتلوا به.
والمعلوم أنه قتل بضربة واحد لا بضربة المجموع، ولكنهم لما تواطئوا، واتفقوا واتخذوا لذلك الوسائل لإزهاق الروح كانوا في حقيقة أمرهم قتلة، وإن لم يباشروا جميعاً القتل.
قال النووي: (هذا الحديث من قواعد الإسلام).
أي من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.
(وهو أن كل من ابتدع شيئاً من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئاً من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) وللحديث الصحيح: (ومن سن سنة حسنة).
(ومن سن سنة سيئة) وللحديث الصحيح (ما من داع يدعو إلى هدى).
(وما من داع يدع إلى ضلالة)] إلا كان له حظ من الهدى، وكان له حظ من الضلالة، والأحاديث كلها في هذا الباب تدور في فلك واحد.
ولا يفهم من حديث (أن من سن سنة حسنة في الإسلام له أجرها) أنه يبتدع أو أنه يجوز له أن يبتدع في دين الله الشيء الحسن؛ لأن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، فلا يمكن أن يؤذن أو يسمح لأحد من أهل الإسلام أن يأتي بشيء يدخل به على الإسلام وليس منه، ونعده حينئذ من باب الحسنات، أو من باب السنن الحسنة؛ لأننا لا بد أن ننظر إلى مناسبة هذا الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وهو (أن قوماً من مضر أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام مجتابي النمار) أي: قتلهم الهزال، والضعف، والجوع، والحاجة، (فلما رآهم النبي عليه الصلاة والسلام تمعر وجهه).
يعني: تغير وجهه وحزن وغضب لما نزل بهم من فقر وحاجة (فعرف ذلك أحد أصحابه فقام فأتى بما عنده) أي: من طعام أو شراب أو كسوة (فلما رآه أصحابه قد فعل ذلك وسر النبي عليه الصلاة والسلام بفعل هذا الصاحب، قام كل واحد منهم إلى بيته فمنهم من أتى بكسرة خبز، ومنهم من أتى بطعام، ومنهم من أتى بشراب، ومنهم من أتى بملبس، فوضعوه في نطع ثم حملوه، والنطع هو الفرش من الجلد، فحملوه حتى كادت أيديهم أن تكل - أي تعجز عن حمل هذا النطع بل قد كلت، فأتوا به إسعاداً لنبي الله عليه الصلاة والسلام ومساعدة لهؤلاء الفقراء المحتاجين - فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من أصحابه ذلك أراد أن يكافئ من سن هذه السنة الحسنة أولاً فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة) فلو أننا نظرنا إلى أصل هذا الحديث لوجدنا أن هذا الصاحب الأول قد فعل شيئاً يأذن به الشرع؟ فإنه الذي ذهب إلى بيته فأتى بما عنده مع قلته، فهو ما ابتدع في الإسلام شيئاً، بل إنه قرر مبدأً عظيماً، أو مبادئ عظيمة في الإسلام وهو مبدأ مواساة الفقراء والمحتاجين، وهذا أصل أصيل في الإسلام، وخدمة الفقراء، وإعانة الملهوفين، وإغاثتهم كل هذا إنما فعله هذا الصاحب؛ لأن الإسلام قد سنه أولاً فهو ما زاد على أنه ذكَّر الأصحاب بواجبات شرعية قد أذن وأمر وحث عليها الشرع، فلم يأت بجديد.
ولو نظرت إلى مجموع البدع التي أحدثت في الإسلام لوجدت أنها في مجموعها أمور خيرية لا بأس بها إذا لم تفعل على أنها من الدين، أما لو فعلت على أنها دين فهذا هو الابتداع؛ لأن خطر الابتداع يكمن في اتهام الله عز وجل، واتهام الرسول عليه الصلاة والسلام