أما قوله: (فذهب عبد الرحمن يتكلم قبل صاحبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر) يعني: قدم الكبير في السن أن يتكلم، وفي الحقيقة فإن كثيراً من الإخوة أو كثيراً من المسلمين يتصورون أن التقدم دائماً لمن كان على اليمين في الدخول، أو الخروج، أو الطعام، والشراب وغير ذلك، وليس هو كذلك، بل ورد في السنة أحاديث كثيرة جداً تدل تارة على أن التقدم لمن كان على اليمين، أو التقدم لكبير السن، أو التقدم لكبير الشأن، فليس التقدم على نسق واحد يتعلق بالسن، بل قال عليه الصلاة والسلام: (البركة مع أكابرك) وقال: (أمرني جبريل أن أكبر) يعني: أقدم الكبير.
أي: في الطعام، والشراب، والتقدم والمشي وغير ذلك.
قال مالك بن مغول كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فصرنا إلى مضيق -يعني: إلى طريق ضيق لا يأخذنا جميعاً وإنما يتقدم أحدنا دون الآخر- فتقدمني ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك.
وهذا يدل على جواز التقدم لمن كان كبير السن وإن كان على جهة الشمال.
وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت -أي: وصلت- أنا وابن المبارك إلى قنطرة -أي: معبر طريق- فقلت له: تقدم.
وقال لي: بل تقدم أنت.
فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين.
والسلف كان بينهم من اللطائف أمر عجيب جداً.
وأيضاً: لو كان التقدم من جهة اليمين مستقر عند السلف ولا شيء غيره لم يكن هناك حاجة إلى حساب السن، حتى لو كان أفضل منه في العلم، ولما لم يكن هذا مستقراً لدى السلف وأن التقدم على أنحاء كثيرة فكان أحدهما حين يتقدم على الآخر إما لعلمه، أو فضله، أو لمكانته ومنزلته، وأحياناً بعضهم يتقدم لسنه.
وانتهى الحسن بن عمارة وأبو حنيفة إلى قنطرة فقال أبو حنيفة للحسن: تقدم.
قال الحسن: بل تقدم أنت، أنت أفقهنا، وأعلمنا، وأفضلنا، فالتقدم يكون لأهل العلم، والفقه، والفضل.
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: بلغني أن الحسن بن صالح وعلي بن صالح كانا توأمين، فنزل الحسن قبل علي فما تقدم عليه علي قط ولا تكلم في مجلس فيه الحسن احتراماً للحسن، مع أن علي من الثقات الأثبات الفقهاء، وكلامهما مشهور بالعبادة، والزهد، والصلاح.
يعني: يريد أن يقول لك: لم يكن بينهما نصف ساعة.
الحسن نزل من بطن أمه أولاً ومن بعده علي فهما توأمان، لكن علي يحفظ هذا التقدم في السن ولو كان نصف ساعة، وغير ذلك مما كان هو محل مفاضلة بين أهل العلم من السلف فليس بلازم أن تكون أنت على اليمين فيثبت لك الحق المطلق فربما يكون من كان على الشمال هو أولى منك بهذا الحق كأن يكون عالماً أو جواداً سخياً يجود على الناس وينفعهم وأنت لست كذلك، أو يكون والدك، أو عمك، أو جدك، أو معلمك أو مدرسك، أو غير ذلك فكل هؤلاء لهم الحق عليك في التقدم، وفي الشراب، وفي الكلام والمحادثة وغير ذلك، إذا وجدت واحداً من هؤلاء فقدمه على نفسك، وهذا من باب الأدب.
ونحن نعرف أن عبد الرحمن بن سهل بن زيد أخو القتيل، أما محيصة وحويصة فكلاهما ابن عم له، وابن العم ليس وارثاً ولا ولياً، إنما وليه عبد الرحمن، فـ عبد الرحمن هو الوحيد الذي له الحق في أن يرث عبد الله وله الحق في أن يتكلم، فلما استخدم هذا الحق في طرح القضية وعرضها على النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كبر)، لأن محيصة أصغر من حويصة، فـ حويصة هو الذي يتكلم أولاً، وإذا أراد محيصة أن يتكلم فليفعل بعد أخيه، أما عبد الرحمن فآخر من يتكلم؛ لأنه الصغير، مع أنه صاحب الحق الأول وهؤلاء لا حق لهم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام حويصة على عبد الرحمن إنما أمر بذلك؛ ولم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع القصة، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف القضية ما هي؟ وما هو الذي حصل؟ ليس في معرض تحقيق وتفصيل القضية، وإثبات الحق لفلان ونفيه عن فلان، أو اتهام فلان وثبوت الحق لفلان، وإنما يريد أن يفهم ما الذي حصل؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما حرم عبد الرحمن من الابتداء بالكلام رغم أنه صاحب الحق في الولاية لمعرفة صورة القضية، لا لتحقيق الحق وإثبات التهمة، لكن إذا قلنا تكلم عن الحق ونحكم فيه بالدية أو القصاص أو غير ذلك فإن صاحب الحق عبد الرحمن، ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ولكنه استشرفت نفسه بمساعدته،