قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف المشهور بـ القعنبي نسبة إلى جده- حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد - وهو ثابت بن أسلم البناني البصري سيد من سادات التابعين، وحميد هو ابن أبي حميد الطويل مشهور بذلك- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)].
وفي رواية: (حجبت)، فـ: البخاري روى هذا الحديث بروايتين: الرواية الأولى: (حفت)، وقد وافقه فيها مسلم، ثم انفرد البخاري برواية أخرى وهي: (حجبت)، وكلاهما بمعنى.
قال: [(حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)].
قال الإمام النووي عليه رحمة الله: وهذا من بديع الكلام وفصيحه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، أي: أنه يمثل الشيء بالمثال الحسن الذي يقرب المعنى والمفهوم من الأذهان، ومعنى هذا الحديث: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، ولا يوصل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات، فبين أن الجنة لا يصل إليها من يصل إلا بارتكاب المكاره، ولا شك أن هذه المكاره في باب العبادات والطاعات، والجنة والنار محجوبتان بالمكاره والشهوات، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فمن هتك حجاب المكاره في العبادات والطاعات وصل إلى الجنة، ومن هتك حجاب المحارم وصل إلى النار.
فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإسباغ الوضوء على المكاره)، فمن المكاره الوضوء بالماء البارد في اليوم البارد، وخاصة لو خرجت من تحت لحافك في صلاة الفجر فهذا شيء النفس تأباه وترفضه؛ لأن النفس بطبيعتها تميل إلى الراحة، وإلى ما يحلو لها، وإلى ما تشتهيه، ففي هذه الليالي الباردة لا شك أن النفس تركن إلى الدفء وإلى الغطاء، فكونك تلجمها وتكرهها على أن تقوم فتتوضأ ثم تقف لله عز وجل فتصلي وتقرأ القرآن وغير ذلك، وتفوت على نفسك ساعات طويلة من النوم والراحة، فلا شك أن هذا أمر فيه تأديب وتربية للنفس، وقد سميت هذه الأمور بالمكاره لأنك تكره نفسك على طاعة الله عز وجل، وتكرهها كذلك على اجتناب محارم الله عز وجل.
فالستار الذي بينك وبين الجنة هو مكاره الطاعات والعبادات، فمن هتك هذا الستر وتغلب على نفسه وصل إلى الجنة، والنار محجوبة عنك بستار المحارم والشهوات المحرمة، فإذا ما هتكت هذا الستر دخلت النار، وإذا ما أقمته، وابتعدت عنه، وانتهيت عنه، فلا شك أنك ستنجو من النار بإذن الله تعالى، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
أما الشهوات التي حفت بها النار، فالظاهر أنها شهوات محرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية بشهوة، والغيبة، والنميمة، واستعمال الملاهي، والمعازف، والموسيقى، وسائر المحرمات، كل هذا يمثل ستاراً قوياً يؤدي بك إلى النار أو ينجيك من النار، فإذا هتكت هذا الستر التي هي الشهوات المحرمة دخلت النار وإلا فلا.
وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذا؛ فشهوة النكاح شهوة مباحة وهي نفس الشهوة عند من اشتهى الزنا، لكنه إن أطلق العنان لنفسه بالزنا دخل النار، وإن أطلقت العنان لنفسك بالشهوة المباحة الحلال فلا حرج عليك في ذلك، وإن كان هناك كراهة في الإسراف والغلو في المباحات حتى لا تؤدي بك إلى الحرام، فيكره الإكثار منها مخافة أن تجر إلى المحرم، أو تقسي القلب أو تشغل عن الطاعات، أو تحوج صاحبها إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للترف فيها وغير ذلك.
فلو أن شخصاً كل همه أن يحصل الدنيا، ومع ذلك هو يجتنب المحرمات، وربما يبتعد عن المكروهات كذلك، لكنه مشغسول بتحصيل المباحات، والتحسينات، والكماليات، فلا شك أن هذا كله يؤدي به إلى ضعف الديانة في قلبه، وبالتالي ينصرف همه وتنصرف همته إلى تحصيل الدنيا، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء ليحصل الدنيا، ولم يأمر بها، وإنما لتحصيل الآخرة، والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، أي: لهي الحياة الحقيقية لو كانوا يعلمون.