[حدثنا أحمد بن عبد الله بن رمح حدثنا فضيل بن عياض عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر -والحبر: بفتح الحاء على الأفصح، وهو العالم من علماء اليهود- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم!) لأنه ليس له أن يقول: يا نبي الله؛ لأن هذا إقرار منه بنبوة محمد، والقضية كلها متعلقة بالإنكار بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: [(إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع)] وهذا يدل على أنه كان يجد هذا الكلام في كتب أهل ملته.
قال: [(والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق -أي: مما لم يذكر آنفاً- على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر).
أي: ضحكه عليه الصلاة والسلام ليس إنكاراً وإنما كان تعجباً، ولو كان هذا الكلام باطلاً لغضب النبي عليه الصلاة والسلام على الفور؛ لأن هذا كلام يتعلق بالذات العلية، فليس هناك مجال للضحك، ولا على سبيل السخرية، أو الإنكار؛ لأن المؤمن لا يضحك إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل، حتى ولو على سبيل الإنكار، أو السخرية والاستهزاء فإنه لا يضحك، وإنما يغضب ويتمعر وجهه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تغير وتمعر وجهه، واحمر كأنما فقئ فيه حب الرمان مما هو أقل من ذلك مما كان باطلاً، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام من قول الحبر تعجباً وتصديقاً له، هذه الدلالة والقرينة الأولى.
والدلالة والقرينة الثانية قال: [(وتصديقاً له على ما قال، ثم قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67])].
فالشاهد الثاني: قول الراوي: (وتصديقاً له) أي: وتصديقاً للحبر.
الشاهد الثالث: تلاوة النبي عليه الصلاة والسلام للآية، والتي معناها: ومع ذلك -أيها اليهود- فأنتم ما قدرتم الله حق قدره، وأنتم تعرفون أنه على كل شيء قدير، وأن كل شيء في قبضته وفي يمينه، ومع هذا فأنتم لم تؤمنوا به حق الإيمان.
ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام مصداق قول هذا الحبر من كتاب الله عز وجل فقال: [{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]].
فذكر من كلام الله عز وجل ما يشهد لكلام ذلك الحبر.
وبعض أهل العلم قال: هذا الضحك كان على سبيل الإنكار، واستشهدوا لذلك بلغة العرب، وأن الشخص إذا أنكر شيئاً ضحك منه استهزاءً أو سخرية أو غير ذلك.
والرد عليهم: إذا كان هذا في حق المخلوقين، فإنه لا يجوز ولا يحل في حق الأنبياء؛ خاصة الضحك إذا انتهكت الذات العلية، فضلاً عن هذه الشواهد السابقة التي ذكرتها، وكلها قاضية بأن الضحك كان للإقرار، ولذلك أخرج الترمذي في سننه عن ابن عباس: (أن حبراً من أحبار اليهود دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات.
وفي رواية: يجعل السماوات على هذه، وأشار الحبر إلى الخنصر، ويجعل الأرض على ذه، وأشار إلى البنصر، ويجعل الجبال على ذه وأشار إلى الوسطى، حتى عد هذه المخلوقات وختم يده إلى الإبهام).
والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على هذا الرجل أنه أشار إلى أصابعه في معرض كلامه عن أصابع المولى عز وجل، لأن الأمر مستقر عند النبي عليه الصلاة والسلام وعند هذا الحبر، وعند الصحابة الذين حضروا هذا المشهد أن أصبع اليهودي هو أصبعه، وأصبع المولى عز وجل هو أصبعه، وإذا كان هناك اتفاق فهو في مجرد الاسم لا في كيفية هذا المسمى.
فالله تعالى له أصبع، ولليهودي وللنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه وللخلق أصابع، لكن شتان ما بين أصابع الخلق وأصابع المولى عز وجل.
فهذا اليهودي إنما أشار إلى أصابعه، ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأمر كان معلوماً ومستقراً أن البون شاسع بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، واليهود يعلمون ذلك، والنصارى يعلمون ذلك، ولذلك ما أنكر عليهم.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وأجمع أهل العلم بالحديث على أن هذه الرواية رواية صحيحة لا مطعن فيها.
فإذا قلت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن)، وكلاهما روايتان صحيحتان، فلا يعني أنك أنت على صورة الرحمن، أو أن الرحمن على صورتك، وإنما يعني هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى له صورة كما خلقك أنت على صورة، فلك صورة وللمولى عز وجل صورة، ولك يد وللمولى عز وجل يد، ولك ساق وللمولى عز وجل ساق، لكن شتان ما بين