ورواية عبد الله بن عمر الأخيرة: [(انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم)].
وهذا يدل على أن ذلك كان في الأمم السابقة [(حتى آواهم المبيت إلى غار)].
أي: اضطروا أن يبيتوا في غار، لأجل المطر [(وقال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً)] والمال هنا بمعنى الرقيق، أي: لا أسقي أولادي ولا امرأتي ولا عبيدي شيئاً قبلهما.
[(وقال الآخر: فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين)] أي: ضائقة وجائحة.
[(فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار.
وقال الثالث: فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فارتعجت)] أي: اضطربت القطيع من الأغنام والبقر من كثرتها.
قال: احتج بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك، وهذا ما يسمى ببيع الفضولي، وموضع الدلالة قوله: (فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءً).
وفي رواية البخاري: (فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق).
وأجاب الشافعية على الأحناف وغيرهم ممن لا يجيزون التصرف المذكور: بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا.
فالكلام هذا في شرع من قبلنا ولعله جائز في شرعهم وغير جائز في شرعنا، وفي كونه شرعاً لنا خلاف مشهور عند الأصوليين.
فإن قلنا: ليس بشرع لنا فلا حجة فيه، وإلا فهو محمول على أنه استأجره بأرز في الذمة ولم يسلم إليه، بل عرضه عليه فلم يقبله لرداءته فلم يتعين من غير قبض صحيح فبقي على ملك المستأجر؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أم للأجير ثم تبرع بما اجتمع منه من الإبل والبقر والغنم والرقيق على الأجير بتراضيهما.
ومن الفوائد أيضاً: أن هذا الرجل عمل في مقابل الثلاثة الآصع من رز أو قمح أو ذرة أو المال الرسمي، فلم يتعين حقه في الثلاثة الآصع بعينها، لو أنه أخذها عنده يصبح حقه تعين له، ولا يحل أخذه منه حتى لو أرسله، إذ لا بد من استئذانه ورضاه، وإذا لم أعطه له يصير في ذمتي ولو تمر عليه مائة سنة فإنها ثلاثة آصع فقط.
لكن هذا المؤجر طابت نفسه أن يعين من ماله الثلاثة آصع وأن يزرعها بنية النماء لهذا الرجل، فهذا فضل من عنده.
فهو هنا قد تصرف في مال الغير بغير إذنه؛ لأن الرجل عين هذا المال للغير، فكأنه دخل في ملكه وهو في حقيقة الأمر ليس ملكاً له على التعيين، وإنما هو له في ذمة المؤجر ثلاثة آصع، لكن ليست هذه بعينها.
هذه الترجمة معقودة لما يسمى عند الفقهاء ببيع الفضولي، وقد مال البخاري فيها إلى الجواز؛ لأن بعض الشافعية أنكروها.
وأورد في حديث ابن عمر في قصة الثلاثة الذين انحطت عليهم الصخرة في الغار، قول أحدهم: (إني استأجرت أجيراً بفرق من ذرة فأعطيته فأبى، فعمدت إلى الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقراً وراعيها).
قال: فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكن لما ثمره له ونماه وأعطاه أخذه ورضيه.
وطريق الاستدلال به ينبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، والجمهور على خلافه، والخلاف فيه مشهور، لكن يتقرر بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقه مساق المدح والثناء على فاعله وأقره على ذلك، ولو كان لا يجوز لبينه النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه سكت عنه دل على أن ما كان شرعاً لغيرنا هو شرع لنا إذا وافق النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك واستحبه، فبهذا الطريق يصح الاستدلال به لا بمجرد كونه شرع من قبلنا.
ويقول: وقد أجيب عن حديث الباب بأنه يحتمل أنه استأجره بفرق في الذمة، ولما عرض عليه الفرق فلم يقبضه استمر في ذمة المستأجر؛ لأن الذي في الذمة لا يتعين إلا بالقبض، أما قبل القبض فلا يتعين، إنما يجزئه أن يأخذ قدر ماله في الذمة بغير تعيين، فلما تصرف فيه المالك صح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أو لأجيره، ثم إنه تبرع بما اجتمع منه على الأجير.
يعني: تبرع من باب التفضل، فقد تبرع به على الأجير برضاً منه، والله تعالى أعلم.
قال ابن بطال: وفيه دليل على صحة قول ابن القاسم: إذا أودع رجل رجلاً طعاماً فباعه المودع بثمن فرضي المودع فله الخيار، إن شاء أخذ الثمن الذي باعه به، وإن شاء أخذ مثل طعامه.
واستدل به كذلك أبو ثور على أن من غصب قمحاً فزرعه فكلما أخرجت الأرض من القمح فهو لصاحب القمح.
أما قول الثلاثة: (اللهم إن كنت تعلم) فيه إشكال؛ لأن المؤمن يعلم قطعاً أن الله يعلم، فلم قالوا: اللهم إن كنت تعلم مع أنه يعلم؟ أجيب: بأن هؤلاء ترددوا في عملهم، هل له اعتبار عند الله أم لا؟ ربما يكون له اعتبار عنده، لكن وقع حابطاً عند الله عز وجل، فكأنهم يقولون: اللهم إن كان قد سبق في علمك أن هذا ع