قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني قتيبة بن سعيد].
وهو ثقفي، وثقيف في الطائف، ولكنه رحل إلى مصر والبصرة والكوفة وبغداد وغيرها من سائر البلدان.
قال: [حدثنا ليث]-وهو الليث بن سعد الفهمي، الإمام الكبير المصري- عن جعفر بن ربيعة]، وهو جفعر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل المصري، وقد كان إماماً من أئمة المصريين.
والليث وجعفر كلاهما مصري، وتلميذ الليث ثقفي، والأعرج وأبو هريرة مدنيان.
والليث شهرته وسمعته فاقتا كل حد، وهما فوق كل تعريف، وأما جعفر بن ربيعة فهو وإن كان من أجلة علماء الحديث والفقه والعبادة كذلك، ومن المشهورين بالزهد إلا أن أحداً لا يعرف عنه شيئاً، وكثيراً ما يمر القارئ في كتب التراجم بأئمة لا يقلوا في العلم والورع والفضل عن أحمد بن حنبل ولا الشافعي ولا مالك ولا أبي حنيفة، وهم مع هذا مغمورون جداً حتى عند طلاب علم الحديث والمطلعين في كتب التراجم، وهذا بلا شك تفريط شديد جداً في حق أئمة العلم.
وأنا أقترح أن ينشط طلاب العلم لإعداد بحث في أهل العلم من المحدثين الذين هم من أهل مصر أو وفدوا إليها، وليكن على الأقل ممن له رواية في الكتب الستة؛ حتى لا يخرجوا عن الكتب التي ترجمت لأصحاب الكتب الستة، وإلا فالذين نزلوا مصر والذي هم أهلها آلاف العلماء على مر التاريخ، ولو جعلنا البحث متعلقاً بتراجم أو برواة الكتب الستة فقط وإلى نهاية عصر التدوين -أي: نهاية القرن الرابع الهجري- لكان ذلك عملاً جيداً جداً ومفيداً خاصة لأهل مصر، وهذا ليس من باب التعصب لعلماء مصر ولا لمصر، وإنما هو من باب التعرف على علماء بلادنا قبل غيرهم.
وجعفر بن ربيعة يروي عن الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني، [عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً)].
إذاً: العلة أن الديكة إذا صاحت فإنما تصيح لأنها رأت ملكاً، فالدعاء حينئذ مستجاب؛ لأن الملائكة تؤمن على دعاء الداعي، فإذا سمعت الديك يصيح فاسأل الله تعالى من فضله، فإما أن تقول: اللهم إني أسألك من فضلك، وإما أن تسأل الله تعالى بمطلق الدعاء من فضله سبحانه وتعالى، فإن فعلت ذلك أمن الملك الذي رآه الديك على دعائك، وهذا هو معنى قوله: (فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً).
قال: (قال: القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء) والحالة هذه (واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والإخلاص).
أي: شهادة الملائكة عند الله عز وجل في ضراعة هذا العبد وإخلاصه لله عز وجل.
قال: (وفي هذا الحديث استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم).
ونحن دائماً نعلق على قول الإمام النووي في استحباب التبرك بآثار الصالحين: أن هذه المسألة محل خلاف ونزاع قديم بين أهل العلم، والذي أجمع عليه العلماء: استحباب التبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام وآثاره حياً وميتاً، وأما التبرك بذات النبي عليه الصلاة والسلام بعد موته فشرك بالله العظيم، وأما التبرك بآثار الصالحين فإن بعض أهل العلم أجاز ذلك قياساً على التبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأنه عبد صالح.
وجمهور أهل السنة والجماعة على ترك التبرك بآثار الصالحين؛ لأنه ذريعة إلى الدخول في الشرك، كما أنه افتئات على الله عز وجل في نسبة هذا العبد إلى الصلاح، وصلاح العبد لا يعلمه إلا الله عز وجل، والمقطوع بصلاحهم هم الأنبياء والمرسلون، فمنعوا التبرك حتى بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والمشهود لهم بالجنة من أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ سداً للذريعة.
وهنا شبهة يمكن أن تثار، وهي: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام مقطوعاً بصلاحه فكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغير ذلك ممن شهد لهم القرآن والسنة بدخول الجنة، وعلى هذا فيشرع التوسل بهم.
والجواب عند أهل السنة: أن هذا الباب قد سد بعد النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يكون ذريعة للشرك.
أي: الوقوع في الشرك.
فهذه الجملة عند الحافظ النووي محل نظر عند أهل السنة.