بعض الناس اعترض على كلام علماء الجرح والتعديل في الرواة، وأنفذ شاعرُهم يقول في أبياتٍ له، سأذكر البداية في هذه الأبيات، يقول: أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيدُ فلو كان خيراً كان كالخير كله ولكن شيطان الحديث مريدُ ولـ ابن معين في الرجال مقالةٌ سيُسأل عنها والمليك شهيدُ فإن يكُ حقاً فهو في الأصل غيبةٌ وإن يكُ زوراً فالقصاص شديدُ فهو يريد أن يقول: إن كلام علماء الجرح والتعديل في فلان، الذي هو نقد الرواة لا يصلح سواءً كان حقاً أو باطلاً، فإن كان حقاً فهو غيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة، قال: (ذكرُك أخاك بما يكره) ، وأي مصيبة أعظم من أن يُتَكَلَّم في رجل صناعته الحديث وبضاعته الحديث؟ أنت تعرف أن جرح أهل العلم لا يندمل، يظل ينزف دائماً، فلا يتعرضن أحد لأهل العلم، قديماً كان الرواة يخافون من يحيى بن معين؛ لأنه كان معروفاً بالكلام في الرواة، حتى إن شيخاً من أهل مصر ذهب إلى بغداد، ونزل في (فندق) ، فأهل بغداد لما عرفوا أنه وصل بدءوا يتوافدون عليه، أولاً: راوي هذه القصة من أهل بغداد قال: طرقت عليه الباب، فقال: مَن؟ قلت: فلان، قال: ادخل، فلما دخلت قلت: أمْلِ عليَّ، فجعل يملي عليَّ وهو مضطجع والكتاب في يده، فطرق الباب طارق، قال: من؟ قال: أحمد بن حنبل فدخل، والشيخ على هيئته يملي، ودق الباب آخر، قال: من؟ قال: فلان، ادخل فدخل، حتى طرق الباب طارقٌ، فقال: مَن؟ قال: يحيى بن معين، قال: فرأيت يديه ترجفان، وسقط الكتاب من يده، فـ يحيى بن معين لما يتكلم في الراوي كلمة فإن الراوي يسقط رأس ماله، تخيل شخصاً بضاعته الحديث فقط، فإذا جاء شخص كـ يحيى بن معين، أو أحمد بن حنبل، أو الدارقطني وقال: كذاب، أو قال: مغفل، أو متروك، أو سيئ الحفظ، إذاً ذهبت بضاعته.
فهذا الشاعر يقول: إن يحيى بن معين له في الرجال مقالة، فإن يكُ محقاً فهو مغتاب، وإن يكُ زوراً فالقصاص شديد.
علماء المسلمين كلهم على خلاف هذا القول، فلقد سئل يحيى بن سعيد القطان، ومالك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو زرعة الرازي: هل الكلام في الرواة يعد من الغيبة؟ فأجمعوا أن لا.
فهذا معنى ومحذرِ، فإنه يدخل فيه أيضاً كلام أهل العلم في أهل البدع، وفي أهل المعاصي، فكل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة، بل هو واجب لابد أن تقوم الأمة به.
قوله: ومجاهرٍ فسقاً، أي رجل يجاهر بالفسق، فقلت: احذروا فلاناً، فهذا يدخل في معنى التحذير، ولا يعد من الغيبة المحرمة، ولو كان ذلك يسوء المتكلَّمُ فيه.