صور من تأديب علماء السلف لتلاميذهم

الإمام الكبير العلم أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله، كان مشهوراً بالشدة والقسوة على الطلبة، حتى إن الخطيب البغدادي روى عنه حكايات عجيبة في شرح أصحاب الحديث.

يقول: إن الأعمش ما كان يحب أحداً يجلس بجانبه وهو يحدث، فجاء طالب من الطلبة الغرباء، لا يعرف أن الشيخ يكره ذلك، فجلس بجانبه، فأحس به، وكان الأعمش كفيفاً، فلما أحس به جعل الأعمش يتفل عليه طيلة الجلسة، وهم يقولون لهذا الطالب: اسكت -يشيرون له-؛ لأنه لو تكلم فإن الأعمش سيقطع الحديث في الحال.

وهذا عبد الله بن نمير وعبد الرحمن بن مهدي، كان الواحد منهما إذا رأى طالباً يبري القلم في المسجد أخذ نعله ومشى.

وكذلك إذا رأى طالباً يهمر -أي: يجري- أخذ نعله وخرج، ويحرم الطلبة كلهم، وبينهم أناس قدموا من أماكن بعيدة، ما ذنب الطالب الذي قدم من مكان بعيد؟ لأن هذه مسألة أدب.

وإذا كانوا في مجلس وكيع كأنّ على رءوسهم الطير، هذا كله ليس تحكماً على رقاب الطلبة، وإنما هو نوع من التأديب، كما صح عن مجاهد بن جبر رحمه الله، قال: لا يتعلم اثنان: مستحٍ، ومتكبر.

الطالب الذي جاء وقد لبس ثوب العز، ابن فلان الفلاني، أو ابن علان العلاني لا، وأنت آت اخلع الرداء على باب المسجد، وادخل هنا بزي التلميذ وسمت التلميذ، لست ابن فلان في هذا المجلس.

وكيع بن الجراح هو: الجراح بن مليح الرؤاسي، كان على بيت المال، وهو الذي يعطي الأعطيات للعلماء، فذهب ذات يوم للأعمش، فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي وكيع! ابن من؟ قال: ابن الجراح.

قال: ابن مليح؟ قال: نعم.

قال: ماذا تريد؟ قال: أريد الحديث.

قال: اذهب فأتني بعطاء من أبيك وأحدثك بعشرة أحاديث.

مباشرةً انطلق وكيع وذهب إلى أبيه، فأعطاه نصف العطاء، فجاء فنظر الأعمش فعرف الحيلة، فحدثه بخمسة أحاديث، قال له: والخمسة؟ قال: تعملها عليّ؟ -وما علم أن الأعمش مجرب، قد شهد الوقائع، رجل أصبح سيد الوقائع، يعني رجل له حروب كثيرة، رجل مجرب- لا أحدثك إلا إذا أتيتني بعطائي كله.

هذا نوع من التأديب، فاستفاد وكيع من الأعمش كثيراً.

فمرةً شتمه رجل -شتم وكيعاً - فدخل وكيع داره وعفر وجهه بالتراب، وخرج إلى الرجل فقال له: (زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه، انظروا! ينسب نفسه إلى النقص وإلى التقصير.

لا يفعل هذا إلا رجل ورث الأدب.

وسبه رجل أيضاً، فقيل لـ وكيع: ألا تجيبه؟ قال: ولِمَ تعلمنا العلم إذاً؟! لا بد أن يكون هناك فرق بينك وبين السفيه، ونحن نشبه الرجل الذي يحمل العلم، والرجل الفارغ من العلم، بالسيارة الفارغة والسيارة الملآنة: السيارة الفارغة تسرع وقد تخبط أي شيء أمامها من سرعتها، لكن عندما تكون مليئة وتمشي ببطءٍ وتؤدة، كذلك الإنسان الذي لا يحمل العلم كثير الضوضاء، يتكلم كثيراً، كثير الشغب، بخلاف العالم، فهو يقول: لم تعلمنا العلم إذاً؟! لابد أن يكون هناك فرق.

والعرب كانت تقول: (لا تجاري السفيه بسفه مثله، فإن هذا يعني أنك رضيت أمره فحذوت مثاله) .

وقد أحسن من قال: يقابلني السفيه بكل حمق فأرفض أن أكون له مجيباً يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً هل أنت تشم البخور إلا عندما تضرم فيه النار؟! عندما تضرم النار في عود البخور تعرف أنه طيبٌ، كذلك الحلم لا يظهر إلا بمثل هذا.

فالإمام الأعمش رحمة الله عليه كان شديداً، وورث منه هذه الشدة أبو بكر بن عياش، فقد كان عسراً جداً في التحديث، فجاءوا فقالوا: يا أستاذ! ألا حدثتنا بحديث؟ قال: ولا نصف حديث.

قالوا: حدثنا بنصف حديث.

قال: اختاروا السند أو المتن.

ما هذا؟! فأرادوا أن يختبروه، فقالوا: أنت عندنا إسناد، نريد متناً ننتفع به.

فقال: كان إبراهيم النخعي يدحرج الدلو.

إذاً: ما الذي استفدناه؟! حتى المتن شح عليهم به، شح عليهم بمتن مفيد، وكان ممكن يقولون له: هات السند؟ فهو يرى أنه بفعله هذا يؤدب الطلبة.

هذا يذكرني بأحد المحدثين وكان لا يزال شاباً صغيراً، ذهب يسمع من العلماء، فعادة العلماء أنهم إذا رووا حديثاً واحداً بأسانيد كثيرة، أن المحدث يذكر المتن في أول إسناد، ومن ثم يحيل على المتن السابق، يعني لا يكرر، مثلما فعل الإمام مسلم في أول حديث في صحيحه، عندما روى الحديث بإسناد نظيف، وبعد ذلك أورد أسانيد في بعض رجالها مقال، ويقول: بنحو حديثهم، بمثل حديثهم يعني كأنه يريد أن يقول: إن الكلام متشابه.

فالمهم أن الطالب هذا أيضاً كتب متناً واحداً وكتب لهذا المتن عشرين أو ثلاثين سنداً بنحوه، بمثله، فقالوا له: يا أخي اجعل لنا مجلساً وحدثنا فيه من العلم النافع.

ففتح كتابه، وكان المتن في الصفحة الأولى، ففتح الصفحة الثانية التي فيها الأسانيد وجعل يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان بمثله، بنحوه، بنحو ما قال، بمثل ما قال، قالوا له: ما هو الذي بنحو ما قال؟ أين المتن؟ أين الكلام؟ قال: كما سمعنا نحدثكم، هل أنا أحرف الكلام أم ماذا؟ أنا سمعت هكذا، الشيخ قال: بنحوه؛ إذاً بنحوه، بمثله، وهو إنما قال: بنحوه، بمثله للحديث الأول، يعني كان المفروض أنه يقرأ المتن الأول.

فالقصد: أن الشيوخ كانوا يشددون على الطلبة، وكانوا يطردونهم أحياناً إن رأوا المصلحة في ذلك، كل هذا ليس إذلالاً لهم، ولكن لكسر الكبر الذي يأتي من الطالب.

يقول عيسى بن يونس: ما رأيت مجلساً الفقير أعز فيه إلا في مجلس الأعمش، وكان يحتقر الأغنياء على فقره وحاجته، وما كان يطمع أبداً فيما عندهم؛ لأن الأمر كما قيل لأهل البصرة: بما ساد فيكم الحسن - الحسن البصري -؟ قالوا: احتجنا لعلمه، واستغنى عن دنيانا.

هذا هو هذا الفرق.

إذاً أول شيء -وهو من أهم المطالب وأهم الآداب-: أن تعرف لماذا تطلب العلم؟ كثير من إخواننا حتى هذه الساعة صار له عشر سنين، أو خمسة عشر سنة، أو عشرين سنة يقرأ في الكتب، ومع ذلك لا يستطيع أن يحرر مسألة خلافية حتى الآن، لماذا؟ لأنه لم يحدد ما الذي يريده من العلم.

عدة المتعلم على سبيل النجاة بخلاف عدة الذي يتعلم ليعلم، هذا له عدة وهذا له عدة، تعقد النية وتجرد القصد لله تبارك وتعالى، ثم تلج العلم من باب الأدب، ظن بنفسك شراً، وأن إخوانك أفضل منك، وأنك لما تقدم إخوانك عليك يكون خيراً لك، ولو نازعك أحد في الدنيا فاتركها له، فإنها تأتيك أوفر ما كانت، وجرب، لا تنازع أحداً في الصدارة أبداً، ستأتيك؛ لأن الله عز وجل هو الذي يهب المكانات، سبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو: (رب أشعث أغبر، ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) وأن عبداً كان يمشي على الأرض بقدميه، وهو سعد بن معاذ، اهتز له عرش الرحمن يوم مات، فكم قدر هذا العبد الذي يهتز له عرش الرحمن تبارك وتعالى؟ فأنت لا تدري ما منزلتك، إذاً تواضع، أخصب الأراضي التي تستوعب الماء، وتزرع أكثر من الأرض المرتفعة؛ لأن الأرض المرتفعة لا يصعد إليها ماء، كذلك الإنسان المرتفع المتكبر، الذي له سنام عال لا ينال العلم، لكن كلما تكون منخفضاً بالذات للعلم، فإن هذا يكون أفضل لك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015