بالعلم يرفع الله الناس به درجات

إذاً هذا الحديث -أيها الإخوة الكرام- يبين لنا فضل العلم، وأن الله تبارك وتعالى يرفع الناس درجات، والدرجة -كما ورد في بعض الأحاديث- كما بين السماء والأرض، يرفع الناس درجات في العلم، كم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم!.

والإمام مسلم رحمه الله روى في صحيحه من حديث نافع بن عبد الحارث، وكان عاملاً لـ عمر على مكة (أن عمر لقيه بعسفان: قال له: من تركت -يعني: عاملاً بمكة-؟ قال: تركت عليها مولى لنا يقال له: ابن أبزى.

قال: تركت مولى يؤم أبناء المهاجرين والأنصار؟! قال: يا أمير المؤمنين! أما إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض.

فقال عمر رضي الله عنه: إني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فكم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم! فهذا الأعمش رحمه الله لقب بـ الأعمش لعمش كان في عينه، حتى ذكروا من سيرته أن امرأته نشزت عليه يوم من الأيام، فقال لتلميذ من تلاميذه: تعال من وراء الستار وقل لها: أنت في ماذا أغاظك الشيخ؟ من حسن حظك أنك تعيشين معه باستمرار، بينما نحن نتمنى أن نقعد معه ساعة.

فقال: قل لها هاتين الكلمتين ربما يحن قلبها عليّ.

فـ الأعمش هذا قعد هو وصاحبه فبدأ صاحبه يثني عليه ويقول: إنه الأستاذ الكبير، الذي كلنا نعظمه ونجله ونكرمه، وقال كلام بهذا المعنى، ثم قال: حتى والله إنه لا يعيبه إلا أنه أعمش.

فـ الأعمش قام عليه وقال: قاتلك الله! وهل نشوزها عليّ إلا بسبب هذا؟! كان الأعمش رحمه الله يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، لكن رفعه الله بالعلم درجات، حيث يعتبر من ثقات الأئمة الكبار، وكان قاسياً مع الطلبة، ومع قسوته كانوا يتهافتون عليه.

من الرواة عن الأعمش: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، انظر إلى تلامذته الجبال الرواسي هؤلاء! هذا شرف للأعمش أن يكون تلامذته هؤلاء وأمثالهم.

يقول الحافظ ابن حجر في (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) في ترجمة ابن تيمية يقول: ولو لم يكن لهذا الإمام من فضل إلا تلميذه ابن قيم الجوزية، صاحب المصنفات العديدة، التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان دليلاً على إمامة هذا الرجل.

يكفي أنه أخرج ابن القيم، وهو شبيه جداً بشيخه ابن تيمية، لكنه أفهم الناس في علل النفوس، حيث كانت المسألة واضحة عنده، مع أنه يغرف من بحر ابن تيمية.

فـ الأعمش هذا الإمام الكبير، الذي يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، تلامذته على هذا النمط العالي: سفيان الثوري، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وإسرائيل بن يونس، وهمام بن يحيى، وهشيم بن بشير كلهم علماء عظام، فكان الأعمش قاسياً معهم.

ذكر الخطيب البغدادي في كتاب: (شرف أصحاب الحديث) : أنه ربى كلباً لأصحاب الحديث، لأنهم يدخلون عليه كل حين وحين، لا يستطيع أن يأخذ راحته أبداً، يأتون من الآفاق: اقرأ علينا، أسمعنا فربى لهم كلباً، فكان إذا سمع وقع أرجلهم تقترب من الدار يرسل عليهم الكلب، ولك أن تتصور الموقف عندما يأتي شعبة وسفيان الثوري وغيرهما كلهم يجرون أمام الكلب! الشيخ يدخل من هنا وهم يلحقونه من هنا، ولا يملون على الإطلاق، فجاءوا يوماً إليه واقتربوا من الباب على حذر ولم يخرج الكلب، فهجموا على الدار ودخلوا عليه، فلما رآهم بكى، قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! قال: مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

الذي هو الكلب.

فـ الأعمش كان عسر الرواية، وكان يهينهم، ومع ذلك كانوا يأتون إليه، لو لم يكن لديه علم لم يكن أحد ينظر إليه، فالذي رفعه إلى هذا القدر وصار إماماً في علم الحديث وغيره من العلوم هو العلم.

مرة يذكر الخطيب -أيضاً- يقول: إن الأعمش كان عسر الرواية فقيه، وكان قريباً من العمى فلا يرى إلا يسيراً جداً، فمرة كانوا يشيعون جنازة شخص ما ليدفنوها، فخرج الأعمش معهم، فلقيه أحد الطلبة وأمسك بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد، وهذا الطالب طالب لئيم، صار مع الأعمش وأخذ ينحرف به قليلاً قليلاً قليلاً إلى أن صار الناس يمشون في جهة وهما يمشيان في جهة أخرى، والأعمش شبه أعمى لا يعرف أين يمشي، المهم بعد مسافة قال التلميذ: يا أبا محمد أتدري أين أنت؟ قال له: لا.

قال: أنت في جبانة كذا وكذا -وهي بعيدة جداً عن البلد- والله لا أردك إلى البلد حتى تملأ الألواح بالحديث، أنا جاهز بمائة ورقة وأريد أن أملأها.

فـ الأعمش اغتاظ منه، واضطر أن يحدثه، وقعد يمليه: حدثني فلان وفلان وفلان حتى ملأ الألواح، ثم رجع بـ الأعمش إلى البلد وهو مغتاظ عليه، لكنه ينتظر حتى يدخل البلد، أول ما دخلا البلد التلميذ قابل أحد أصدقائه فأعطاه الألواح سراً، وقال له: هذه أمانة عندك، وسأمر عليك في وقت لاحق حتى آخذها.

ثم أوصل الأعمش إلى البيت، فأول ما قال له: وصلت إلى البيت يا أبا محمد، قام فأمسك بيده مباشرةً، وقال: خذوا الألواح من السارق.

فقال: قد مضت الألواح يا أبا محمد.

فلما تأكد أن الألواح ذهبت ولن تعود، قال: كل ما حدثتك كذب!! قال التلميذ: أنت أعلم بالله من أن تكذب.

وللأعمش جولات، فلو استطردنا فيه وفي سيرته سيطول بنا الوقت كثيراً، ولكن القصد من الكلام أن الأعمش رحمه الله كان أعمش العينين ويقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، فانظر إليه كيف رفعه الله عز وجل! هذا هو النسب الحقيقي إنه العلم.

هل تعرفون شيئاً عن الأئمة الكبار، وعن بلادهم غير الإمام أحمد مثلاً وأبي حاتم الرازي؟ لا، مثلاً الإمام البخاري هل تعرف شيئاً عن أولاده؟ لا تعرف أولاده، ما الذي رفع هذا الإمام، مع أنه لم يكن بأعظم الناس في حياته، كان له قرناء، وكان هناك من هو أفضل منه، ومع ذلك صار ذكره عبر القرون، وسار مسير الشمس، لدرجة أن هناك بعض الناس لما يغلط مثلاً في القرآن وينتقد يقول: لم نغلط في البخاري، يعني كأن البخاري أعظم من كتاب الله.

مرة حكى لي بعض المشايخ يقول: ذات مرة دخل شخص ليصلي المغرب، فكان يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] قال: (إلهكم التكاثر) قيل له: ما هذا؟ قال: يا أخي! وهل غلطنا في صحيح البخاري! قال له: يا أخي هذا قرآن!! يعني هؤلاء العوام عندهم البخاري شيء لا أحد يقترب منه لماذا؟ ما الذي أعطى البخاري هذه الهيبة الكبيرة جداً من الإجلال والتوقير والاحترام، وأن كل ما في صحيح البخاري صحيح، مع أن العلماء لهم كلام في بعض ألفاظه؟: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] لكن بلا شك أن النسب الحقيقي هو العلم، مصنفاته هي أبناؤه، عندما يمن عليك ربنا سبحانه بالعلم والخير وتؤلف وتكتب، إياك أن تصنع كالموجة التي حصلت من عشر سنين، ولا زالت مستمرة حتى الآن: شباب لا ناقة لهم ولا جمل في العلم، اتبعوا سياسة نسخ الكتاب، ليس عنده علم، لكن يتعاقد بالملزمة، الملزمة بمائتي جنيه، والناقل الجاهل يقيس بالشبر، فكل شبر بثمن.

مثلاً شعبة: شخص لم ينقل ترجمة شعبة من الترغيب والترهيب.

أنت تنقل ترجمة شعبة عشر ورقات، تنقلها لمن؟ إذا كان من أهل العلم فليس بحاجة إليها، وإذا كانوا ليسوا من أهل العلم ليسوا بحاجة إليها أيضاً؛ لأنه لا يعلم ما هو المكتوب في الكتاب، هل رأيت الفرخ، هو (كتكوت منفوخ) عمره أكثر من أربعين يوماً وتستدل على هذا (الكتكوت) بصوته: صو صو، إنما الديك البلدي حجمه صغير جداً ويصل صوته إلى سابع دار! فأنت تبدأ وتقرأ فيه بلا علم، ولا تستفيد منه، وأيضاً تدفع مالاً، إذا كان مائة صفحة ستدفع فيها مثلاً خمسة جنيهات، وإذا كان ثلاثمائة صفحة تدفع خمسين جنيهاً.

قديماً كان المحققون معروفون أمثال: أحمد شاكر، محمود شاكر، محيي الدين عبد الحميد، محمد فؤاد عبد الباقي، محمد أبو الفضل إبراهيم، علي البنجاوي، إبراهيم زايد رحمة الله عليهم، ويحفظ الله من عاش منهم.

هؤلاء كانوا محققين وآخرين معهم، الآن -على رأي الشيخ الألباني رحمه الله- يقول لك: فلان الأثري موضة العصر، موضة العصر الأثري، أبو الفضل الأثري وهكذا.

هل تعلم الأثري هذا من هو؟ ماذا عنده من علم؟ ما هي كتبه؟ لا تعرف.

نحن نقول لطلبة العلم: لا تستعجل، الكتاب مثل ابنك، مثل ولدك بالضبط، لأنك ستأخذ صيتك وسمعتك منه، اتعب عليه، الولد الذي أنت تربيه اتعب عليه يجلب لك الثناء والرحمة، يقول لك: الله يرحمك ويرحم والديك، والولد الشقي يجلب على أبيه اللعنة في الدنيا والآخرة أيضاً.

فاجعل الكتاب ابنك، والعلم نسبك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015