هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جامع رائع، يبين فضل العلم، وهو الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، وابن ماجة، وأحمد في مسنده من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه، فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته فهما في الوزر سواء) .
فالناس اثنان، واثنان تبع لهما، فالثاني تبع للأول، والرابع تبع للثالث.
الرجل الأول: آتاه الله علماً ومالاً، وهناك نكتة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فذكر الدنيا ليصبر الناس على طلب العلم، بعض الناس يبدأ في العلم بنية فاسدة، كأن يتمنى أن يكون شيخاً كبيراً وعالماً جليلاً ومفتي الديار، وهذه النية ما لم يبتغ بها الآخرة فهي نية فاسدة.
فأقل قدر من طلب الدنيا يعكر عمل الآخرة، ونمثل لهذه المسألة بإناء فيه قطعة من الطين الرقراق، ثم صببت الماء في هذا الإناء، فكيف سيصير شكل الماء، سيصير كله بشكل الطين، برغم أن حجم الماء كثير بالنسبة لحجم الطينة الموضوعة في الإناء، إلا أن هذا عكر ذاك كله، فأقل قدر من الدنيا يعكر عمل الآخرة، لذلك الإخلاص لله ضروري ومهم.
النبي عليه الصلاة والسلام استفاد من مال أبي بكر رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أمنّ علي في صحبته وماله من أبي بكر، وقال له: لك يد علي لا يجزيك بها إلا الله) .
ومع ذلك لما أراد أن يهاجر عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري، وأخبر أبا بكر أنه سيهاجر اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يطعمهما ويعلفهما استعداداً للهجرة، فلما آن أوان الهجرة وجاء أبو بكر بالراحلتين فأعطى راحلة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال له النبي عليه الصلاة، والسلام: (بالثمن) فلماذا قال له عليه الصلاة والسلام بالثمن وهو قد أخذ منه كثيراً قبل ذلك ولم يعطه الثمن؟ وكم واساه أبو بكر رضي الله عنه بماله، لأن الهجرة لله فلا يريد أن يعكرها بشيء من الدنيا، قال له: (لا أخذ الراحلة إلا بثمنها) ، تجريداً للقصد.
وكذلك لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فوجد قطعة أرض لغلامين يتيمين من الأنصار، فقال: (ثامنوني بحائطكم يا بني النجار) يعني: بيعوه مني بالثمن، فقالوا: لا والله لا نأخذ ثمنه إلا من الله عز وجل، ومع ذلك أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الثمن، لأن هذا بيت الله.
فأقل قدر من الدنيا يعكر الآخرة، فالإنسان في بداية طلبه العلم يتمنى أن يكون مفتياً وإماماً وفقيهاً ومحدثاً، وكل هذا يعكر فضله، لكن قد يدخل المرء بوابة العلم بهذه النية الفاسدة، ثم يطلب العلم فتصلح نيته بعد ذلك مع طلب العلم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما الدنيا لأربعة نفر) أي من طلب الدنيا بالعلم نال الدنيا، والعلماء سلاطين غير متوجين، والعامة تخضع لهم أكثر من خضوعهم للسلطان؛ لأن العلماء يملكون سلطان الحجة الذي يخضع القلب له، بينما السلاطين لا يملكون إلا سلطان اليد؛ الذي لا يخضع البشر إلا له.
لأنه قد تجد الرجل يكابر العالم وقلبه خاضع لسلطان الحجة الذي ذكره العالم، إذاً العالم يسيطر على القلب؛ لأجل هذا كان سلطانه أقوى، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] فهو جاحد، لكن في حقيقة أمره مستيقن وخاضع لها قلبه، فالعالم يملك قلوب الناس، ومن هنا تأتي قوته.
فمن أراد الدنيا فعليه بالعلم، وهذا نوع من الترغيب، فكأنه يقال لك: إذا طلبت العلم فعجزت عن تصحيح نيتك، وأحسست أن الدنيا متقدمة فلا تنصرف عن العلم، رجاء أن يصلح الله حالك.
بعض الناس يقول لك: أنا لم أستطع، أحس أني أريد أن أكون فقيهاً، فخلطه بين الرياء والدعوة يصرفه عن العلم، فنقول له: اصبر، وهذا من دليل نصح النبي عليه الصلاة والسلام.
إن العابد يزهد الناس في الدنيا والناس لا تستغني عنها فقلما يطيعونه، لكن العالم يحبب الناس في الله، فتهون الدنيا عليهم، وهذا هو الفرق، فإذا قلت لإنسان: اترك الدنيا وأت ورائي، لا يسمع منك هذا الكلام، ليس لأنه لئيم، أو لأنه غير مؤمن، ولكن لو بينت له أن التقلل من الدنيا طاعة لكان أحرى وأجدر، ولذلك ما أحسن نصيحة أصحاب قارون له، قالوا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] .
يعني عندما نقول لك: اتبعنا، فأنا لا أقول لك اترك ما أنت فيه من الأبهة، فإذا كان هناك رجل غني جداً، وعنده كل رفاهيات الحياة، وأراد أن يلتزم كيف تريده أن ينخلع من كل هذا، أتريد أن يكون مثل أبي ذر مثلاً، وتقص عليه قصة أبي ذر؟ لماذا لا تقص عليه قصة عبد الرحمن بن عوف؟ وإذا صعدت قليلاً فتقص عليه قصة سليمان عليه السلام.
وانظر إلى سفيان بن عيينة رحمه الله عندما قال له سائل: أيهما أحب إليك قول مطرف بن عبد الله بن الشخير: لأن أعافى فأشكر خيراً لي من أن أبتلى فأصبر، أم قول أخيه أبي العلاء: اللهم إني رضيت لنفسي ما رضيته لي، فسكت سفيان ساعة ثم قال: قول مطرف أحب إلي، لماذا؟ قال: إني قرأت كتاب الله عز وجل فرأيت وصف سليمان مع ما كان فيه من النعمة: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30] ورأيت وصف أيوب مع ما كان فيه من البلاء: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] فقام الشكر مقام الصبر وبقيت العافية، فلأن أعافى فأشكر خير من أن أبتلى فأصبر، إذا كانت الدرجة عند الله واحدة.
فسليمان عليه السلام قام بحق الله في شكر النعم، فإذا كان هذا الرجل الذي تدعوه عنده مال وقلت له: اترك المال لا يتبعك؛ لأنه يشق عليه ذلك، هناك بعض الناس يقول: أنا أخشى الفقر وأخافه، ولا أتخيل أنني أعيش فقيراً، فمثل هذا لا نقول له: اترك مالك ونظل نحبب هذا الشيء إليه، لا.
فهذا قارون لو أن كل أغنياء العالم الآن جمعوا ما عندهم من المال، لكان ما يمتلكونه شيئاً يسيراً بالنسبة لما يمتلكه قارون، انظر إلى عظم حجم الأموال التي كان يمتلكها قارون، ولك أن تتخيل إذا علمت أن العصبة أولي القوة يحملون مفاتيح الخزائن فقط.
فإذا كان هناك شخص غني وعنده كل هذا المال مثل قارون، وفي نفس الوقت وضيع، فلا يمكن أن يترك هذا المال، وعلامة أنه وضيع قول الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] يعني شخص من قوم، أي: ليس له قيمة، ليس له كنية، ليس له أي قيمه في المجتمع، ثم صعد هذا الصعود الهائل وصار غنياً هذا الغنى.
فعندما يكون وضيعاً وغنياً ثم أحب أن يلتزم أو يقترب، فمن الخطأ الجسيم أن تقول له: اترك مالك واتبعني! ولكن قل له: تمتع بكل المباحات وأخرج حق الله من المال، واعطف على ابن السبيل والأرملة والمسكين، وكل كما تحب وتريد، قال: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (إنما الدنيا لأربعة نفر) هناك بعض الناس يدخل العلم بهذه النية، فنقول له: لا تضطرب، ولا يحرمنك فساد نيتك أول الأمر على ترك طلب العلم، لكن اطلب العلم، واطرق بابه، وستصحح نيتك بعد ذلك كلما أضفت شيئاً إليك قرآناً أو سنة، كل هذا تتعلم منه شيئاً فشيئاً، فتصحح نيتك بعد ذلك.