مكانة الإمام البخاري وكتابه الصحيح عند الأمة

ثم قال البخاري: باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، قال: حدثنا خالد بن مخلد الذي هو القطواني، تعرفون من روى حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، والذهبي ذكر هذا الحديث في ترجمة خالد بن مخلد القطواني في كتاب: ميزان الاعتدال، وللذهبي كلام معروف في هذه المسألة، قال: حدثنا خالد بن مخلد -وهو من كبار شيوخ البخاري على لين في حفظه، لكن كما قلنا قبل ذلك: إن البخاري إذا أخرج عن راوٍ متكلّم فيه، فإنه إنما انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه، انتبه لهذه المسألة؛ لأنه قد يأتي شخص يقول لك مثلاً: إن هذا الراوي تكلموا فيه وهو في البخاري، وأنتم ترددون أن البخاري لا يروي إلا أصح الصحيح وما إلى ذلك، وأن رواة البخاري هم أوثق الرواة، كيف ترد عليه؟ الرواة الذين روى لهم البخاري وتكلم بعض أهل العلم فيهم، فإن البخاري ينتقي من أحاديثهم ما لم ينكر أهل العلم على هذا الراوي هذا الحديث، إذاً لا تتعرض للحديث الذي في صحيح البخاري، حتى وإن كان أحد رواته قد تكلم فيه أهل العلم، يعني: لا نعامل البخاري ك الطبراني لأن الطبراني في معاجمه يورد الأحاديث الغريبة دون انتقاء، أما البخاري فإن له انتقاء واختياراً، والاختيار هذا لا يُهدر أبداً؛ لأنه من أقوى المرجحات، فكلما كان الإمام أفهم وأعلم وأذكى وشهد له الكل فإن ترجيحه له قيمة، وهذا متفق عليه بين أهل الدنيا جميعاً في كل الصناعات، يعني: عندما يكون هناك طبيب متخصص في مرض معين، وممارس عمله خلال خمسين سنة، واختلف هو وممارس للطب مدة عام فقط، الذي خبرته خمسون سنة هل يتساوى مع هذا الذي خبرته سنة؟ لا، لا يستويان أبداً.

والقاعدة الأغلبية تقول: إننا نرجح كلام الذي له خمسون سنة على الذي له سنة واحدة، وأقول القاعدة الأغلبية لماذا؟ لاحتمال أن يصيب هذا أحياناً، لكن الغالب لا يصيب إلا الممارس لمهنته لمدة طويلة، اتفق العلماء جميعاً على جلالة البخاري، وأنه ذو بصرٍ ثاقب، وهذا ليس فيه أدنى استرابة في أن البخاري في القمة.

وهذا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد -وهو من الأئمة الفحول في معرفة العلل- كان إذا ذكر البخاري يقول: ذاك الكبش النطاح! يعني: أنه لا يغلبه أحد إذا واجهه، والإمام مسلم رحمه الله في الحكاية المشهورة التي أوردها ابن حجر العسقلاني أكثر من مرة: لما سأل مسلم البخاري -ومسلم معروف أنه من تلاميذ البخاري، تتلمذ عليه خمس سنوات- عن حديث كفارة المجلس، البخاري قال: هذا حديث مليح وله علة، فارتعد مسلم وتغير وجهه، وقال: أخبرنيها، فلما أخبره الإمام البخاري بهذه العلة، قال له مسلم: دعني أقبل قدميك يا أستاذ الأستاذين، وطبيب الحديث في علله، أشهد أنه لا يبْغضك إلا حاسد.

فعندما يكون الإمام بهذه الجلالة يكون ترجيحه واختياره له قيمة.

الذين يتكلمون على البخاري لو وجدوا في زمانه لما صلحوا أن يصبوا على البخاري وضوءه، لماذا؟ لأنهم أقل من ذلك.

البخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف وليس في وجهه شعر، لم يكن نمت له لحية بعد، فصحيح البخاري ليس ملكاً للبخاري، لقد قُرئ مئات الألوف من المرات على مئات الألوف من العلماء عبر القرون، واتفق الكل على هذا الكتاب، ولم يعارضه معارض مع الحاجة إلى معارضة مثله، ونحن نخرج له عيوباً ونقول له: أنت مخطئ في هذه وفي هذه وفي هذه فعندما يقرأ الكتاب على مئات الآلاف عبر القرون، فالكتاب لم يعد ملك البخاري، إنما صار ملك الأمة جميعها، كأن عقول الأمة جميعاً نقحت كتاب البخاري، وكل عالم من هؤلاء العلماء نظر في كتاب البخاري، حتى قال ابن خزيمة -وابن خزيمة من طبقة البخاري وإن كان توفي بعده- قال: نظرت في هذه الكتب فلم أر أجود من كتاب محمد بن إسماعيل، الذي هو البخاري، وقال: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل، وحسبك هذه الشهادات! والأئمة كلهم كما قلت لكم: البخاري عندهم محل اتفاق، إذاً البخاري عندما يروي عن شيخ له، أو عن راوٍ في السند تكلم بعض أهل العلم فيه، فاعلم أن البخاري انتقى من حديث هذا المتكلم ما لم ينكره أهل العلم عليه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015