الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلا زلنا مع صحيح الإمام البخاري: في كتاب العمل في الصلاة والباب السابع عشر منه.
قال البخاري رحمه الله: [باب: لا يرد السلام في الصلاة].
ومقصوده هنا: رد السلام بالقول.
أي: لو ألقي عليك السلام وأنت تصلي فلا ينبغي أن ترد السلام لفظاً، وإنما بالإشارة، أو بعد انتهاء الصلاة.
هذا رأي جمهور العلماء: أن تؤخر الرد اللفظي إلى ما بعد السلام، أو أن ترد أثناء الصلاة بالإشارة.
ولقد دفع لي أخ فاضل تحقيق حديث: الرد بالإشارة يكون هكذا، اليد باطنها إلى أسفل وظاهرها إلى أعلى.
قال: [حدثنا عبد الله بن أبي شيبة] وهو شيخ البخاري، وترجمته: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، من طبقة كبار تبع الأتباع، كنيته: أبو بكر، بلد الإقامة: الكوفة.
تاريخ الوفاة: (235هـ).
رتبته: ثقة حافظ.
قال فيه ابن حنبل: صدوق.
وقال يحيى بن معين: صدوق.
وقال أبو حاتم الرازي: ثقة.
إلى غيرهم من علماء الحديث، وهو شيخ من شيوخ البخاري.
قال: [حدثنا ابن فضيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله].
إذاً: الحديث ينتهي إلى الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وطبقة الصحابة لا تخضع للجرح ولا التعديل؛ لأن الصحابة كلهم عدول، فلا ينبغي أن تقول: الصحابي ثقة؛ لأنه ثقة سواء قلت أم لم تقل، فطبقة الصحابة لا تخضع لجرح ولا تعديل.
قال: [(كنت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علي)]، وذلك كان في أول الأمر، يجوز رد السلام في الصلاة لفظاً، بل كان يجوز الكلام لمصلحة الصلاة، كأن يسأل الرجل إخوانه: في أي ركعة أنتم؟ فيقولوا: في الثانية، فيدخل معهم في الصلاة، هذا كان في أول الأمر إلى أن أنزل الله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فنهوا عن الكلام في الصلاة إلا بذكر الله عز وجل، وبما هو من أمور الصلاة.
عبد الله بن مسعود لما رجع من الحبشة يقول: (فلما رجعنا من الحبشة سلمت عليه -يعني: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي فلم يرد علي، وقال: إن في الصلاة شغلاً)، أي: أنه لم يرد عليه، فعلم ابن مسعود أن الأمر بالكلام قد نسخ.
وفي هذا: أن عدم العلم بالأمر المنسوخ يجوِّز العمل به إلى أن تعلم، فالعلم مناط التكليف، فيعذر بعدم العلم، فالصحابة منهم من صلى إلى المسجد الأقصى المغرب والعشاء مع أن القبلة تحولت في صلاة العصر -على قول- لكنه صلى وهو لا يعلم، فهل أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة؟ في هذا يقول الحافظ ابن كثير: فالعلم مناط التكليف، وعدم العلم بالمنسوخ يجوِّز العمل به إلى أن تعلم الناسخ.
ثم جاء بالحديث الآخر: [حدثنا أبو معمر]، وأبو معمر أيضاً من شيوخ البخاري، ترجمته: هو عبد الله بن عمرو.
الطبقة: من كبار تبع الأتباع.
إقامته: البصرة، وهو أيضاً ثقة ثبت، وثقه يحيى بن معين، وبدون أدنى شك فرجال البخاري من الثقات.
قال: [حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا كثير عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما]، ولا تقل: جابر بن عبد الله رضي الله عنه، لماذا؟ لأن أباه أيضاً صحابي: عبد الله بن حرام استشهد في غزوة أحد رضي الله عنه، فحينما تقول: جابر بن عبد الله، قل: رضي الله عنهما، تترضى على الصحابي وعلى أبيه.
قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له -في أمر له- فانطلقت ثم رجعت وقد قضيتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي -لأنه كان في صلاة- فوقع في قلبي ما الله أعلم به)؛ لأنه ظن أنه لم يرد عليه؛ لأن في نفسه شيئاً من جابر: (فقلت في نفسي: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد علي أني أبطأت عليه، ثم سلمت عليه فلم يرد علي، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه فرد علي)، رد عليه بعد انتهاء الصلاة، فقال: (إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي، وكان على راحلته متوجهاً إلى غير القبلة صلى الله عليه وسلم).
وفي الحديث فوائد: الفائدة الأولى: جواز صلاة النافلة على الراحلة.
الفائدة الثانية: أن جابراً لم يكن يعلم سنة رد السلام بالإشارة؛ إذ لو كان عنده علم لرد عليه النب