شرح حديث أنس في بول الأعرابي في المسجد

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخبرنا قتيبة قال: حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (أن أعرابياً بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه.

فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه).

أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم عن محمد بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن عمرو بن الوليد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال: (قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله دلواً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)].

هذا الحديث يسمى حديث الأعرابي، وقد أخرجه الشيخان، فهو حديث صحيح.

وفيه دليل على أن النجاسة يصب عليها الماء إذا كانت على الأرض، ولا يحتاج إلى نزع التراب، بل يكتفى بصب الماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراج التراب، ومثله الفرش، فإذا أصابته النجاسة يصب عليها الماء، ويكون حكمها حكم التراب، لكن النجاسة تحرك وتقلب إذا كانت ثقيلة، وإذا كانت قليلة يعصر الفرش ويفرك، هذا إذا كانت النجاسة ليس لها جرم، أما إذا كان لها جرم كالعذرة فلا بد من نقل الجرم، ثم يصب الماء على الأثر.

وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه، فينبغي للدعاة أن يقتدوا ويتأسوا به - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى في كتابه المبين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

فهذا الأعرابي جاهل لا يعلم، جاء من البادية لا يفهم شيئاً، فدخل المسجد ثم رفع ثوبه وجلس يبول، فلما رآه الصحابة زجروه ونهروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه) أي: لا تقطعوا عليه بوله.

فأشار إليهم أن يتركوه، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، فالشدة والعنف يؤديان إلى مفاسد، والصحابة رضوان الله عليهم حرصوا على الخير وحرصوا على تنزيه المسجد فبادروا بالإنكار عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى العاقبة، وسلك مسلك الحكمة، فرأى أنهم إذا نهروه ثم قام حصلت مفاسد، منها: أن البول سيصير عند قيامه في أماكن متعددة من المسجد، فبدل أن يكون في مكان واحد معروف يكون في أمكنة متعددة، وقد لا يعرف مكان بعضها.

ومنها: أنه سيلطخ ثوبه وفخذيه بالبول.

ومنها: أن قطع البول عليه قد يؤدي إلى ضرر صحي.

ومنها: التنفير من الإسلام، فينفر من الإسلام، ويكره الذين أنكروا عليه، وقد يهرب.

كل هذه المفاسد تلافاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (دعوه، لا تزرموه).

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أهريقوا على بوله دلواً من ماء)، وفي لفظ: (سجلاً من ماء)، فأمر بدلو من ماء فصب مكانه وانتهى الأمر بسهولة، وتلافى هذه المفاسد التي كانت ستحصل وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) يعني: إنما بعثتم بالعمل بهذا الدين الذي فيه اليسر وعدم الشدة، أي: بعث نبيكم بهذا وأنتم تعملون بالشرع.

ثم بعد ذلك دعاه النبي صلى الله عليه وسلم برفق ولين، وأخبر بأن هذه المساجد إنما بنيت لذكر الله والصلاة، ولا تصلح لشيء من البول والقذر.

فلما رأى صفة خُلقُه عليه الصلاة والسلام انقاد واستجاب، ثم قال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحدا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً).

وفي هذا الحديث أنه يصب على نجاسة البول الماء، وفي حديث القلتين بيان إذا وقعت النجاسة على الماء.

وقد اختلف العلماء أيضاً في الجمع بينه وبين حديث القلتين، فقال بعضهم: إن حديث القلتين فيه ورود النجاسة على الماء، وحديث الأعرابي فيه ورود الماء على النجاسة، فقال: إن هناك فرقاً بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة، فإذا وردت النجاسة على الماء فإنه ينجس إذا كان دون القلتين، أما إذا ورد الماء على النجاسة فلا ينجس، كما في حديث الأعرابي؛ لأن المعلوم أن الدلو أقل من القلتين، وصب على النجاسة، ومع ذلك ما تنجس الماء، فلو تنجس الماء لما طهرت النجاسة.

لكن هذا التفريق ليس بجيد، وهو دليل على أن الماء - ولو كان قليلاً - لا ينجس إلا بالتغير.

ولتطهير الماء المتنجس طرق، فمنها: نزح النجاسة، فإذا نزحت منه وزال تغيره طهر.

ومنها: المكاثرة، فإذا أضيف إليه الماء الطهور وزالت النجاسة أي: لونها وطعمها وريحها فلا بأس.

ومنها: أن تضاف إليه مواد أخرى، مثل مياه المجاري الآن، فقد يضاف إليها مواد أخرى فيزول طعم النجاسة ولونها ورائحتها، فيعود الماء طهوراً مرة أخرى.

وفي إسناد الحديث الثاني قال النسائي: [عن محمد بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن عمرو بن الوليد] وهذا إسناد فيه خطأ، والصواب: عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد، كما هو في السنن الكبرى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015