قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأسير يكره على الإسلام.
حدثنا محمد بن عمرو بن علي المقدمي قال: حدثنا أشعث بن عبد الله -يعني السجستاني - ح وحدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي - وهذا لفظه -، ح وحدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا.
فأنزل الله عزوجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]).
قال أبو داود: المقلاة التي لا يعيش لها ولد].
أورد أبو داود [باب في الأسير يكره على الإسلام] أي أنه لا يكره، فالأسير لا يكره فيقال له: إما أن تسلم وأما أن نقتلك، ليس هذا من حكم الإسلام، وإنما يوثق ويصير عبداً بين مسلمين يشاهد أحكام الإسلام وأعمال الإسلام، فيكون ذلك سبباً في إسلامه, فما دام أن المسلمين قد تمكنوا منه فإنه يصير تحت إمرتهم وتحت سلطتهم وتحت تصرفهم، فيكون رقيقاً مملوكاً يتصرفون فيه كيف يشاءون، ثم يكون وجوده بين المسلمين سبباً في إسلامه، فالمقصود هو الهداية وليس المقصود القتل.
ولكن كون المسلمين يذهبون إلى بلاد الكفار ويغزونهم ويقاتلونهم على أن يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويكونوا تحت حكم الإسلام هذا هو حكم الإسلام، ومعنى هذا أن فيه جهاداً وفيه انتقال المسلمين من بلادهم إلى بلاد الكفار يغزونهم، فيدعونهم إلى الإسلام، وإلى أن يدخلوا تحت لوائه أو يعطوا الجزية ويكونوا تابعين للمسلمين يعاملهم المسلمون المعاملة التي جاء بها الإسلام.
وأما أن يكون عندهم كافر أسير فيخيرونه بين القتل أو الإسلام فليس الأمر الشرعي كذلك؛ لأنه ما حصل إلزام الأفراد الذين عاشوا تحت حكم الإسلام مأسورين، وكذلك الذين أعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون، فهؤلاء ما أكرهوا على الإسلام بحيث يلزم الإنسان منهم بأن يسلم وإلا قتل، بل إن أسلم فالحمد لله، وإلا فإنه يعطي الجزية ويكون تحت حكم الإسلام، وإعطاؤه الجزية وبقاؤه تحت حكم الإسلام ومشاهدته أحكام الإسلام من أسباب دخوله في الإسلام.
فإكراه الأسير على الإسلام لا يجوز.
وهنا أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه في سبب نزول قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] أن الأنصار كانوا في المدينة ومعهم اليهود، وكانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد، فتنذر أنَّه إن جاءها ولد فإنها ستهوده، أي: تجعله يهودياً.
والأنصار الذين كانوا في المدينة من الأوس والخزرج أصلهم من أزد اليمن من العرب.
فكانت المرأة تنذر بأن تهود ابنها، فيكون يهودياً وينشأ على أنه يهودي، واليهود كانوا معهم في المدينة، فلما أجلي بنو النضير قال الأنصار: لا ندع أبناءنا الذين قد هودوا بسبب هذا النذر الذي يحصل من المرأة المقلاة.
فأنزل الله: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) يعني أنه لا يكره الشخص على الإسلام وعلى أن يدخل في الإسلام.
وأنزل الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فهذا هو معنى الآية، وليس معناها أن الكفار لا يُجَاهدون ولا يُغزون في بلادهم، وعلى هذا فلا تنافي بين ما جاء في القرآن من الأمر بقتال الكفار، كقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، لا تنافي بين ذلك وبين هذه الآية التي هي قوله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، وتكون الآية محمولة على مثل من نزلت فيهم، وهم الذين كانوا أبناء مشركين ولكنهم تهودوا، فلا يكرهوهم على الإسلام فيلزموهم بالإسلام أو القتل؛ لأنهم لو أكرهوهم فيمكن أن يظهروا الإسلام علناً وهم يبطنون الكفر، فلا يكون هناك فائدة من وراء هذا الإكراه.
فتكون الآية محمولة على مثل من نزلت فيهم، وآيات الأمر بالقتال للمشركين على ما هي عليه، وهي أن المسلمين يذهبون إلى بلاد الكفار فيغزونهم ويقاتلونهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً وقال: (اغزوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله).
فتحمل الآيات والأحاديث التي في القتال على غزو الكفار والذهاب إليهم ليدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويحكم الإسلام بلادهم، ويكون الإسلام ظاهراً عالياً على الأديان، ويكونون تحت لوائه، فيشاهدون أحكام الإسلام وفضله، فيكون ذلك سبباً في إسلامهم، والآية ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) تكون في مثل هؤلاء.
وليس الأمر كما يفعله بعض الناس في هذا الزمان حين انهزموا في نفوسهم، فأرادوا أن يعتذروا للإسلام أمام الكفار بأنَّ الإسلام ليس فيه هجوم وليس فيه ذهاب إلى الكفار من أجل دعوتهم إلى الإسلام، وإنما الجهاد في الإسلام للدفاع! هكذا يقول بعض الناس في هذا الزمان، فكثير من الناس يقولون: الجهاد للدفاع.
ونقول: كيف يكون الجهاد للدفاع والصحابة كانوا يذهبون إلى الكفار في بلادهم ويغزونهم في بلادهم، وكذلك من بعدهم، والرسول صلى الله عليه وسلم جهز الجيوش وقال: (اغزوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله)، والصحابة ذهبوا إلى الفرس والروم، مع أن الفرس والروم ما هاجموا المدينة وما جاءوا إلى المدينة حتى يدافع الصحابة عن أنفسهم، وإنما ذهبوا إليهم في بلادهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور بأن يسلموا، أو يدخلوا تحت حكم الإسلام فيشاهدون أحكام الإسلام فيكون ذلك سبباً في إسلامهم؟! وهل يُظن أن الذين ذهبوا إلى إفريقيا حتى وصلوا إلى المحيط الأطلسي ذهبوا ليدافعوا عن الإسلام أو ليدافعوا عن المسلمين؟! إنما كانوا يذهبون إلى الكفار ويدعونهم إلى الإسلام، لكن لما ضعف المسلمون في هذا الزمان وصار الكفار متغلبين صار بعض المسلمين يزعم أن الجهاد إنما هو للدفاع فقط، وأن الكفار لا يغزون ولا يذهب إليهم في بلادهم، ولا إكراه في الدين، فصارت آية (لا إكراه في الدين) هي عندهم كل شيء، والآية إنما جاءت في مثل هذه الصورة التي ذكرت، وهي أن المرأة كانت تكون مقلاة، فتنذر إن عاش لها ولد فإنها ستهوده، ثم لما أجلي بنو النضير وكان أبناء الأنصار اليهود معهم كانوا يكرهونهم على الإسلام حتى يبقوا معهم، فنزلت الآية: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)).
إذاً الآية لها معنىً يخصها، وتلك الآيات لها معانٍ، ولا تنافي بين ما في آيات قتال الكفار حتى يكون الدين كله لله وبين آية ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))؛ لأنها في مثل من نزلت فيهم، فالمسلمون إذا كان تحت أيديهم كافر فإنه لا يجوز لهم أن يقولوا له: إما أن تسلم وإما أن نقتلك، فهذا إكراه ممنوع وغير جائز، وإنما يغزى الكفار في بلادهم ويقاتلون، فإن دخلوا في الإسلام فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، وإن لم يدخلوا طلب منهم إعطاء الجزية ويتولى عليهم المسلمون، ويكون ذلك سبباً في إسلامهم بأن يشاهدوا أحكام الإسلام وتعاليم الإسلام.