قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود.
حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل.
قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين.
قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: لا تراءى ناراهما)].
أورد أبو داود باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، يعني أنه سجد وأظهر ما يدل على إسلامه، ويعني بالترجمة النهي عن قتله وقد وجد منه شيء يدل على إسلامه.
وأورد أبو داود حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: [بعث رسول الله سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود] يعني: لجئوا إلى السجود وسجدوا.
قوله: [فأسرع فيهم القتل].
أي: قتلوهم وهم ساجدون.
قوله: [فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل].
أي: أمر لهم بنصف الدية.
قيل: إنهم كانوا مسلمين، ولكنهم بين الكفار، فقتلوا كما قتل الكفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر لهم بنصف العقل، أي: بنصف الدية، ولم يأمر بها كاملة لأنهم بمقامهم مع الكفار صاروا شركاء في حصول الجناية عليهم، فصاروا مثل الذي قتل بفعله وفعل غيره، فالشيء الذي من فعله يسقط لأنه شارك في قتل نفسه، وأما من شارك في قتله فيكون عليه نصف الدية، فلا يتضمن القتل في هذه الحالة.
قوله: [قال: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)].
يعني هؤلاء قتلوا بسبب وجودهم بين المشركين، وظن المسلمون أنهم منهم.
وقيل: إن اعتصامهم بالسجود ليس دليلاً واضحاً على إسلامهم؛ لأنه يوجد منهم السجود لكبرائهم وكذلك السجود لغير الله عز وجل، فمجرد السجود من الكفار لا يكفي، وإنما الذي يعول عليه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن لما كانوا مسلمين وكانوا بين الكفار وصار لهم مشاركة في أنهم قتلوا بتسبب أنفسهم وبفعل غيرهم صار على الذي حصل منه القتل نصف العقل وليس كله.
وقوله: [(لا تراءى ناراهما)] معناه الإشارة إلى التباعد بين المسلمين والكفار، وأن المسلم لا يكون مع الكفار، بل يكون بعيداً منهم بحيث لا ترى نارُه نارَهم ولا نارُهم نارَه، بمعنى أنهم إذا أوقدوا ناراً وهو أوقد ناراً فإن كلاً لا يرى نار الآخر، وذلك إشارة وكناية عن التباعد بين المسلمين والكفار.
وهذا يدل على البعد عن المشركين وعدم البقاء بين أظهرهم، لكن إذا كان البقاء بين المشركين فيه مصلحة للدعوة إلى الله عز وجل ودعوتهم للإسلام فيكون سائغاً من هذه الناحية، أما إذا كان ليس كذلك، لا سيما إذا كان الإنسان يقيم بين المشركين ولا يتمكن من إظهار شعائر دينه فبقاؤه ضرر كبير عليه، وهو مستحق للوعيد الشديد، لكن إذا كان البقاء من أجل مصلحة تفوق هذه المفسدة، وهي كون بقائه فيه مصلحة للدعوة إلى الله عز وجل وهداية من يهدي الله عز وجل من الكفار على يديه وبسببه فإن هذا لا بأس به.