قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو.
حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو.
السفر بالمصحف إلى أرض العدو إذا كان يؤمن ألا يناله العدو، ولا يحصل له شيء من امتهانهم وما إلى ذلك لا بأس به؛ لأن التعليل هو الخوف من أن ينالوه بشيء لا يليق في حق القرآن، وأما إذا لم يكن هناك محذور، والإنسان يأخذه معه ليقرأ فيه، والمحذور مأمون فلا بأس بذلك، وإنما النهي إذا كان يغلب على الظن أنه تحصل إساءة للقرآن وامتهان له أو يناله العدو بسوء، فهذا هو الذي يمنع منه.
أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو).
قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو.
أي: بسوء.
وهذا الذي قاله مالك قد جاء في بعض الروايات أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني: كونه خشية أن يناله العدو، فهذا التعليل ثابت، إذاً: فالحكم يدور مع علته، فإن وجدت هذه العلة فلا يسافر به، وإن لم توجد المخافة عليه فإنه لا بأس بالسفر به.
وهنا قال في الترجمة: المصحف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (القرآن) كما في الحديث، وذلك أن المصحف إنما وجد في زمن عثمان رضي الله عنه؛ لأنه جمع القرآن وجعله في مصحف، فصاروا يعبرون عنه بالمصحف، وفي التراجم يأتون بلفظ المصحف، وإلا فالحديث جاء بالقرآن أنه لا يسافر به إلى أرض العدو؛ لأن المصحف إنما وجد في زمن عثمان، وقبل ذلك ما كان يوجد مصحف، وقبل زمن أبي بكر ما كان مجموعاً، ولكنه جمع مرتين، مرة في عهد أبي بكر في صحف، فجمع كل شيء يتعلق بالقرآن في عهده.
وفي زمن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد، وأحرق ما سوى ذلك حتى لا يختلفوا، وكان على حرف واحد وعلى لغة واحدة، ولم يكن على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، لأن القرآن أول ما نزل نزل على سبعة أحرف للتخفيف والتسهيل على الناس؛ لأن العرب كانوا متفرقين ومتنابذين، وكان كل لا يعرف لغة الآخر، ولما جاء الإسلام جمع بينهم، ووحد بينهم، واختلطوا وصار كل يعرف لغة الآخرين، فعند ذلك لم يكن هناك حاجة إلى الاستمرار، فرأى عثمان رضي الله عنه -والصحابة أقروه على ذلك- أن يجمع الناس على حرف واحد، وهذا الحرف الواحد الذي هو لغة واحدة يشمل القراءات.
الأحرف غير القراءات، فالأحرف لغات، والقراءات هي إما نقط أو شكل أو زيادة حرف مثل: يعملون وتعملون، ومثل عجبتَ وعجبتُ في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] يعني: في الشكل، وقد يكون بزيادة حرف مثل الكتاب والكتب كما في قول الله عز وجل: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم:12] قراءة حفص عن عاصم بالقراءة المشهورة التي بين أيدينا وهي: كتبه، وقراءة جمهور القراء: (كتابه) فصارت القراءتان موجودتين، ورسم المصحف بتحمل القراءات، ولهذا فرسم المصحف له هيئة خاصة لا يجوز أن تحول إلى الحروف الإملائية التي اعتادها الناس؛ لأن رسمه يستوعب القراءات، مثل (كتابه) رسمها لا تكون الألف فيه مرسومة بعد الباء، وإنما تكون التاء متصلة بالباء، وعند قراءة (كتابه) تكون الكاف مكسورة والتاء مفتوحة، وتوجد ألف قصيرة فوقها إشارة إلى المد، والباء مكسورة، وعلى قراءة (كتبه) تكون الكاف والتاء مضمومة، والباء مكسورة، والرسم يستوعب قراءته، لكن لو جاء لفظ (كتابه) بالألف فإنه لا يستوعب قراءة (كتبه) فجاء الرسم مستوعباً القراءات.
إذاً: الأحرف غير القراءات، وابن القيم رحمه الله له في كتاب: إعلام الواقعين كلام في مسألة سد الذرائع، أورد فيها تسعة وتسعين دليلاً من أدلة سد الذرائع ختمها بالدليل التاسع والتسعين، وهو جمع عثمان رضي الله عنه القرآن على حرف واحد، سداً لذريعة الاختلاف بين الناس.
فإذاً: كلمة المصحف تأتي في التراجم والأبواب، لأن هذا هو الأمر الذي استقر عليه، مثلما جاء في حديث (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فهذا هو الحديث الثابت الذي في الصحيحين وفي غيرهما، ولا يوجد (ما بين قبري ومنبري)، ولكن في التراجم لما صار الواقع خلاف ما في الحديث، فهدم بيت النبي صلى الله عليه وسلم ووسع المسجد ترجم العلماء على ذلك، ولهذا ترجم الإمام البخاري ترجمة فقال: فضل ما بين القبر والمنبر وأتى بحديث: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
فإذاً: كان المؤلفون يذكرون الشيء بعدما وجد، وأما قبل أن يوجد فإنه لا يعرف، وإنما يؤتي بلفظ القرآن كما في الحديث بلفظ البيت، فنهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يقل المصحف؛ لأن المصحف ما وجد إلا متأخراً، وكذلك أيضاً قوله: (ما بين بيتي ومنبري) فهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن جاءت الترجمة بلفظ: باب فضل ما بين القبر والمنبر.
قوله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر].
وقد مر ذكرهم جميعاً إلا ابن عمر وهو: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.