قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المحلل.
حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير حدثنا سفيان بن حسين ح وحدثنا علي بن مسلم حدثنا عباد بن العوام أخبرنا سفيان بن حسين المعنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدخل فرساً بين فرسين -يعني: وهو لا يؤمن أن يسبق- فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار)].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في المحلل، والمحلل هو الثالث الذي ذكره المصنف في هذا الحديث، فالمتسابقان يكون معهما شخص ثالث، وهذا الشخص الثالث يكون فيما إذا كان الجعل من كل واحد منهما، فيقول: إن سبقت فأنت تعطيني كذا وهذا يقول: إن سبقت تعطيني كذا فكل واحد منهما يلتزم للآخر بأنه إذا كان مسبوقاً يعطيه، وهذا الثالث الذي يأتي بينهما قيل له: محلل، من أجل أنه يحلل لكل واحد منهما ما يستحق من الآخر بمعنى: أنه لا يكون السباق بين طرفين فقط فيكون شبيهاً بالقمار، وإنما يكون من ثلاثة أطراف، والثالث يكون محللاً، وهذا المحلل له ثلاث حالات: الأولى: إن كان متيقناً بأنه سيسبق، فهذا لا يجوز؛ لأن دخوله بينهما يُعلم منه مقدماً أنه سيأخذ العوض، فدخوله لا حاجة إليه.
الثانية: أن يكون معروفاً بأنه لا يسبق؛ لأن فرسه أو جواده فيه إعياء، فمعلوم أنه سيكون وجوده مثل عدمه، فلا يجوز.
الثالثة: إذا كان لا يغلب على ظنه أنه يسبق ولا أنه يتأخر، وإنما يحتمل أن يسبق ويحتمل ألا يسبق بأن يكون فرسه متقارباً مع الفرسين، فهذا يجوز، وهذا يكون محللاً وسائغاً على ما جاء في الحديث (إذا كان لا يؤمن أن يسبق) بل يحتمل أن يسبق ويحتمل ألا يسبق، فيكون مثلهم، فالمتسابقون يجب أن يكونوا متماثلين في الجودة ونحوها.
أما إذا تسابق صاحب جواد قوي وصاحب جواد هزيل فهذه المسابقة من أصلها لا وجه لها، ولهذا يقولون عن الشيء الذي فيه تماثل وتناسب: (كفرسي رهان) يعني: أنه لا يسبق أحدهما الثاني لتماثلهما، ولهذا قالوا في ترجمة محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -كما قال الحافظ في التقريب في ترجمة محمد بن المثنى - وكان هو وبندار كفرسي رهان، وماتا في سنة واحدة قيل: كانا متماثلين في الشيوخ، ومتماثلين في التلاميذ، ومتماثلين في البلد، ومتماثلين في العمر، وماتا في سنة واحدة! فقيل لهما: إنهما كفرسي رهان يعني: لا أحد يسبق الثاني؛ لأن الفرسين اللذين يسابق بينهما يصير بينهما شيء من التماثل، وليس بين جواد قوي وجواد هزيل؛ لأن المسابقة عند ذلك تكون معروفة مقدماً بأنها لا غية، وأنه لا قيمة لها إذا كان شخص سابقاً وشخص مسبوقاً، فالمحلل في كلا الحالتين دخوله ووجوده مثل عدمه لا قيمة له، أي إذا كان جواده أحسن من جواديهما، ويكون معلوماً بأنه يسبق، أو أن جواده فيه إعياء وتعب وأنه لا يسبق فيكون وراءهما في الساقة، ولا يكون مثلهما ولا يسبقهما، فالمحلل في هاتين الحالتين لا قيمة له أو لا اعتبار لوجوده.
وأما إذا كان فرسه مثل فرسيهما قد يتقدم وقد يتأخر، قد يسبقه أحد وقد يسبق هو؛ فهذا هو الذي يكون محللاً، وهذا إنما يكون فيما إذا كان الجعل من كل واحد منهما، أما إذا كان من واحد منهما فلا يشترط المحلل، وإذا كان من شخص أجنبي ثالث لا دخل له بالمسابقة، فهذا جائز ولا يشترط المحلل.
وأبو داود أورد حديث أبي هريرة، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وعلى هذا فالمحلل ما ثبت في هذا الحديث؛ ولهذا أورده الحافظ ابن حجر في البلوغ وقال: سنده ضعيف، وقد أورده المصنف من طريقين وكل منهما سنده ضعيف، أحدهما فيه سفيان بن حسين وهو يروي عن الزهري وهو ضعيف في الزهري باتفاق، والثاني: فيه سعيد بن بشير وهو ضعيف، فالحديث جاء من طريقين كل منهما ضعيف، فليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: من أدخل فرساً بين فرسين ليس خاصاً بسباق الفرس بل يعم جميع المسابقات، فإذا كانت المسابقة على إبل فسيكون هناك بعير ثالث بينهما، لكن لا يكون شيء من نوع آخر أو من جنس آخر، وإنما تكون المسابقة من جنس واحد.
وفي المراماة قالوا: إذا كان كل منهما دفع الجعل فإنه يكون شبيهاً بالقمار، وإما إذا كان الجعل من واحد منهما أو من واحد خارج المسابقة فهذا لا بأس به.
إذاً: من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فهذا معناه أنه من جنسهم فيصير مماثلاً لهما؛ فليس بقمار.
(ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار).
معناه أن وجوده كعدمه.
فهذا أمن أن يسبق الذي هو المتأخر، لكن يقابله الذي يسبق الجوادين، حيث يكون جواده أحسن منهما فهاتان الحالتان يصير وجودهما مثل عدمهما، معناه: أنه سيأخذ الجعل ويفوز به في الأولى ولا يكون له في الثانية شيء فيكون قماراً.