قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب رواية قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرقوا أو غربوا.
فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله)].
سبق أن ذكر معنى هذه الترجمة وهي: كراهة استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وهذا حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا.
قال: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله).
هذا الحديث مع ما تقدمه من الأحاديث يدل على أن القبلة لا تستقبل عند قضاء الحاجة وكذلك لا تستدبر، وهذا فيه احترام القبلة وتوقيرها، وأن الإنسان عندما يقضي حاجته لا يستقبل ولا يستدبر القبلة.
وجاء: (ولكن شرقوا أو غربوا)، وهذا إنما يكون في حق من كان في جهة المدينة، وكذلك من كان جنوب مكة فإنه يشرق أو يغرب، وأما من كان عن مكة من جهة الغرب والشرق فإنه لا يشرق ولا يغرب؛ لأنه إذا شرق أو غرب استقبل القبلة أو استدبرها ولكنه يجنب أو يشمل؛ لأن النهي عن الاستقبال والاستدبار هو المقصود، والأمر بالتشريق والتغريب إنما ذكر حتى لا يكون هناك الاستقبال والاستدبار، وهذا إنما يتأتى في حق أهل المدينة ومن كان على جهة المدينة، وكذلك من الجهة الجنوبية من كان عن مكة من جهة الجنوب فإنه يشرق أو يغرب، ومن كان عنها غرباً أو شرقاً فإنه يشمل أو يجنب عند استقباله القبلة.
وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقول: (قدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة -يعني: فيها استقبال الكعبة- فكنا ننحرف عنها يسيراً ونستغفر الله) وهذا يدلنا على أن أبا أيوب رضي الله عنه يرى التعميم في ترك الاستقبال سواء كان في البنيان أو في غير البنيان مطلقاً.
وقد ذهب عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه إلى أن هذا المنع إنما يكون في الفضاء، وأما ما كان في البنيان فإنه لا بأس أن يستقبل أو يستدبر، وسيأتي الحديث الذي يدل على ذلك حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبلاً الشام مستدبراً الكعبة.
قالوا: فالجمع بين هذه الأحاديث: أن ما جاء في حديث أبي أيوب يحمل على ما كان في الفضاء، وما كان في حديث ابن عمر يحمل على ما كان في البنيان.
وأبو أيوب كما ذكرت يرى التعميم، ولهذا لما قدم الشام ووجد المراحيض التي بنيت نحو الكعبة كان ينحرف عنها ويستغفر الله.
والذي ينبغي إذا بنيت البيوت وجعلت فيها أماكن لقضاء الحاجة أن يلاحظ عدم توجيه المراحيض إلى القبلة أو استدبارها؛ لأنه وإن كان جائزاً أن الإنسان يستقبل أو يستدبر في داخل البنيان كما جاء في حديث ابن عمر ولكن لاشك أنه إذا أمكن عدم الاستقبال أو الاستدبار ولو كان ذلك في البنيان فإنه يكون أولى، فالأولى عدم الاستقبال والاستدبار في البنيان وغير البنيان.
ولكن من حيث الجواز فإن حديث ابن عمر يدل عليه، وأن ذلك سائغ ولا بأس به، لكن عندما تبنى أماكن قضاء الحاجة في البيوت ينبغي أن توضع على هيئة متفقة مع ما جاء في حديث أبي أيوب من حيث إن الاستقبال أو الاستدبار لا يكون إلى القبلة، وإن كان ذلك جائزاً في البنيان إلا أن غيره لاشك أنه أولى وأفضل.
وإذا لم يمكن ذلك فإن ذلك جائز.
وقوله هنا: (فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله) ذكر الاستغفار يحتمل أن يكون المراد به أن الانحراف ليس بكامل؛ لأنه جاء في بعض الروايات: (يسيراً) لأن الأماكن وضعت على هيئة تستقبل أو تستدبر، فالانحراف معها يكون فيه عدم تمام، فيستغفر الله مما حصل من التقصير.
وقد جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: إن قوله: (نستغفر الله) أي: لبانيها، وهذا لا يستقيم؛ لأنه قد يكون الذي بناها غير مسلم وغير المسلم لا يستغفر له، ولكن الذي يبدو أنه استغفار من أبي أيوب لنفسه حيث إنه لم يحصل منه أن يترك الاستقبال أو الاستدبار على التمام والكمال؛ لأن الأماكن وضعت على هيئة يكون فيها الاستقبال أو الاستدبار إلى جهة القبلة، ولكن من أجل الابتعاد عن الاستقبال والاستدبار صار ينحرف عنها يسيراً ويستغفر الله أيضاً مما حصل من التقصير.